اقتصاديات المحافظات

 

مسلم بن سعيد مسن

لا شك أنَّ ازدهار ونمو اقتصاديات المحافظات بالشكل المطلوب يعود بالنفع على الاقتصاد الوطني ويُعزز من ناتجه المحلي؛ بل ويعمل على تنويع مصادر المالية العامة، ويعد مسارًا من مسارات وبرامج التنويع الاقتصادي التي طالما تصدرت الخطط التنموية طيلة العقود الخمس الماضية، كما إن الأساس في أن يكون لمحافظات عُمان اقتصاديات متينة نابع من الميزة النسبية لكل محافظة التي أشار لها النطق السامي بوضوح تام خلال اللقاءات التي عُقدت مع شيوخ ولايات عدد من المحافظات.

السياسات والبرامج المحلية المتوقع انتهاجها من قبل المحافظات خلال الفترة المقبلة لابُد وأن تكون في إطار السياسة العامة وفي تناغم تام مع البرامج والخطط الموجهة للاقتصاد الوطني. وهنا نفترض- لأغراض هذا المقال- أن التطورات في الجوانب التشريعية والقانونية والإدارية بالنسبة للمحافظات تأخذ المنحى المطلوب والطبيعي نحو اللامركزية، فما هي إذن ممكنات "اقتصاديات المحافظات" لتحقيق الفارق المنشود في هذه التجربة؟! تلك الممكنات قد تتلخص- من وجهة نظرنا- في ما يلي:

  • ذراع تطويري مُتخصص.. تلجأ بعض الدول إلى تكوين هيئات أو أمانات متخصصة مسؤولة عن التخطيط والتطوير داخل المحافظة. هذا الكيان المتخصص يحشد الموارد المالية والمشروعات المخطط لها ويتابع تنفيذها وفق مؤشرات أداء، لا يكفي أن يتخذ المحافظ أو المجالس البلدية قرارات وخطط محلية دون أن تكون هناك جهة تستطيع أن تعكس تلك السياسات والقرارات على أرض الواقع وتتابع تنفيذها بدقة وتحلحل التحديات التي تواجه المشروعات وتمهد كافة السبل والإجراءات أمام المتعاملين والمستثمرين، بالأخص عندما يتحول القرار الوطني كلياً نحو اللامركزية. عليه، فإن التفكير في تأسيس هذا الكيان مهم جداً بالاعتماد على الموارد والهياكل المتوافرة لنخرج بلبنة أولى يتم تطويرها لاحقاً إلى مستوى إداري وبصلاحيات ممكنة تقوم مقام هذا الذراع التطويري المتخصص والمفيد لتجربة المحافظات ربما خلال مراحل متقدمة من اللامركزية.
  • الميزانية الإنمائية وبرنامج تنمية المحافظات.. تحظى المحافظات بتمويل تنموي من خلال الميزانية الإنمائية- تعتبر ميزانية مركزية-، كما أطلق برنامج تنمية المحافظات- خارج الميزانية الإنمائية- بتوجيهات سديدة من لدن عاهل البلاد المُفدى وتم رفع مخصصها إلى 20 مليون ريال عُماني لكل محافظة خلال الخطة الحالية؛ أي بمعدل سنوي يبلغ حوالي 4 ملايين ريال لكل محافظة. ولا شك أنَّ التمويل يعد أداة مهمة لتحقيق النمو المضطرد لـ"اقتصاديات المحافظات"، وبالأخص في المراحل الأولى من التجربة، ولكن إلى أن يصار إلى استحداث "بند مستقل لكل محافظة" في الميزانية العامة للدولة- وهو ما ينسجم مع التوجه الرامي نحو اللامركزية- فإن العديد من عمليات تطوير الأنظمة المالية والإدارية والهيكلية وآليات وبرامج التناقص لا بُد وأن تجرى محليًا، وإن تم استبقاء بند تنموي ذي طابع مركزي فإنه يوجه فقط للمشروعات ذات الطبيعة الشاملة التي تحتاجها الدولة من الناحية الاستراتيجية. كذلك من الأهمية بمكان أن تؤخذ في الاعتبار المعايير المؤيدة لاختيار المشروعات ذات المردود والأثر الاقتصادي والاجتماعي لأنها الوحيدة التي ستخلق الفارق إذا ما استُغلت الميزة التنافسية والنسبية للمحافظة الواحدة ولم تذهب بعيداً عن ذلك.
  • التمويل التنموي الذاتي.. تحدثنا عن التمويل المتأتي من الميزانية العامة الموجه للمحافظات، ولكن في حقيقة الأمر تحظى بعض المحافظات بتمويل غير مستغل بشكل كاف، مصدره بنود المسؤولية الاجتماعية للشركات والمساهمات المجتمعية بمختلف أنواعها. وتحقيق الأثر الاقتصادي لهذا النوع من التمويل يمكن أن يحصل من خلال تجويد آليات ومجالات ومنهجيات الصرف ومواءمتها مع بقية أنواع التمويل في المحافظة الواحدة لتحقيق الغايات الاقتصادية الكلية. كما إن مفهوم التمويل الذاتي للمحافظات على المدى البعيد كأحد مصادر التمويل التنموي بعيدا عن الميزانية العامة من خلال موارد وإيرادات محلية لابد وأن يكون هدفا واضحا عندما يتوسع اقتصاد المحافظات ويعمل نموذجه بكامل متغيراته.
  • التكامل والتخصص في القطاع الواحد.. لا تعني اللامركزية أن لا يوجد تنسيق في السياسات الكلية والبرامج بين كل المحافظات، من خلال المركز لتحقيق التكاملية المطلوبة، كما إن تخصيص الموارد في كل الإتجاهات والمجالات والتوزيع الجغرافي داخل المحافظة الواحدة قد لا يؤدي الغرض، ولو تخصصت كل محافظة في قطاع ذا ميزة تنافسية وحشدت له الموارد والجهود فحينئذ ستتحقق نتائج ملموسة للتجربة.

تلك بعض الممكنات التي نعتقد أنها ستسهم في تعزيز مفهوم "اقتصاديات المحافظات"، وما نتمناه أن تأخذ هذه التجربة مسارها وتؤتي ثمارها بإذن الله وبدعم القيادة الحكيمة وجهود أبناء عمان المخلصين.