كم مجنونًا على الشجرة!

فاطمة اليمانية

 

"هؤلاء الواقفون على قمّة الجبل، ألم يهبطوا من السماء هناك!" "مجهول"

***

 

قالت لهم أمّهم عندما كانوا صغارا:

-      الحياة جميلة.. فقط ابتسموا!

وتعهّدت الحياة بكل ما تملك من قوّة على لَجْمِ أفواههم، وأيْقَنوا بأنّ الحياةَ قالبُ كعكٍ محروق! تشتهيها ويصدّك سوادها! للدرجة التي أصبحوا يستهجنون فيها الضحك!

فانكمشت عضلات وجوههم؛ لتتخذ وضعية واحدة:

-      التجّهم!

وعندما كانوا يبتسمون -سهواً- يشعرون بأنّ عَارِضاً أصابهم، كالمرض! أو العار! شيء لا يشعر به غيرهم!

فاعتبروا التّبَسّم عيبا، والضّحك قلّة أدب! وإلقاء النكت يستوجب الغرغرة عشر مرّات حتى تطهر أفواههم! وعندما طرقت ابنة الجيران -التي لم تتجاوز الثامنة - باب بيتهم للمرّة الأولى، وطرحت على أكبرهم "شبه المجنون" سؤالا صادماً، أخذه على محمل الفَلْسَفة!:

-      هل أنتم مجانين؟!

ليُقَدّم تفسيرا فلسفيا لها:

-      أغلبُ العالم مجانين، ومن ليس بمجنون فهو غاضب! ومن ليس بمجنون ولا غاضب، فهو غبي فقط!

-      أنتَ غبي فقط؟

-      وأنتِ ماذا تُريدين؟

-      أرسلتني أمّي إليكم، وقالت لي اذهبي إلى أهلَكِ المجانين!

-      وهل تعتقد أمّكِ أنّنا ببساطة سنقع في الفخ؟!

-      ما الفخ؟!

-      خدعة أو طريقة مُلتوية يُلْجَأُ إليها لإلقاء شخص في وضع عسير، أو خطر مخفي يتعرض المرء للوقوع فيه جهلاً، أو تغافلاً!

-      قُل مصيدة باختصار!

حدّق في لمعة عينيها السوداوين، كانت ذكية مُقارنة بعمرها، وأقرانها، وأمّها!

أمّها التي كانت خطيبته في يوم ما، لكنّه رفض الزواج بها لأنّها انتظرته طويلا! أو قالت له ذلك؛ فساومته على الانتظار!

فأحضر ورقة وقلماً ورسم مخطّطا لجبل شاهق! وتخيل نفسه واقفا على قمّة الجبل، ورسم ظلّا له في الأسفل!

ثم سألها أيهما الأصل:

-      ذلك الواقف على الجبل؟ أم الظل؟

على اعتبار أنّ عمق إجابتها هي الطريقة المُثْلى التي تُساعده على حسم الأمور؛ فهل هي مُؤهلة للارتباط به! أو غير صالحة؟! ومُنتهية الصلاحية كالسلع في خزانة منزلهم المَنْسِية! حينما تركوا طهو الطعام، لطهوِ أفكارهم وأعصابهم، ومشاعرهم!

ووصلوا إلى قناعة تامّة بأنّهم مختلفون عن الآخرين! وهو كان مؤسس فكر الاختلاف في المنزل؛ فاستقطب أشقّاءه إلى زمرته وأفكاره! وتقوقعوا على أنفسهم بعد وفاة والديهم، وبعد إنهاء خطبته لابنة عمّه التي فشلت في الإجابة على سؤاله العميق حسب فهمه لكلمة عُمق! لتجذب الورقة والقلم، وترسم ظلّ حمار، ثم تصفعه بالورقة، وتقول له:

-      الإجابة هنا!

وانتهت الخطبة؛ لتتزوج ابنة عمّه من أحد الجيران بعد أنْ تأكّدت أنّه لا يحمل أيَّ مؤهل دراسي؛ باحثة عن راحة دماغها كما كانت تقول! لكن راحة الدماغ لم تستمر طويلاً؛ فحملت ابنتها نفس جينات أبناء عمّها من رفض الحقائق وتحوير الأسئلة، وإعطاء الأشياء البسيطة نظرة أخرى تثير استفزازها، وبعد مضي ساعتين من مذاكرة الدروس مع ابنتها التي تستعد لاختبار الرياضيات، صرخت في وجهها، وقالت لها:

- خذي دفترك، واذهبي لأبناء عمّي؛ فهم عباقرة في الرياضيات!

فحملت ابنتها دفترها وقلمها والكثير من الفرح والبهجة؛ لأنَّ أمّها سمحت لها أخيرا بالذهاب إلى عائلة عمّها بعد قطيعة استمرّت أكثر من عشر سنوات!

أفاق من هواجسه على صوت الفتاة مكررة طلبها:

-      عمّي.. عمّي.. عمّي!

-      تعوّدي ألّا تكرري النداء!

-      لكنّك لا ترد!

-      لنعد إلى محور حديثنا؟!

-      الفخ؟!

-      أو عودتك إلى والدتك، وقولي لها: القشور الطافية، لا تعني الوقوع في بركة طحالب!

فأخرجت البنت من حقيبة قماشية دفتراً وقلمًا، وقالت له:

-      لديّ امتحان رياضيات غدًا.

-      الرياضيات علمٌ يحتاج إلى سَبْر!

-      صبرتُ طوال العام على لسعات عصا أمّي! ولم أحرز تقدمًا!

-      شتّان بين السَبْر، والصبر!

تأَفّفت الفتاة.. فقال مُمتعضاً:

-      اقتحمتِ عالمي؛ لتَتأفّفي!

فناولته ورقة مليئة بالأخطاء، وقالت له، انظر جريمة المعلمة!

قرأ الأسئلة وإجابات الفتاة، وقال مُتذمّرا:

-      هكذا تُطْمْس العقول!

فتهلّل وجه الفتاة.. وقالت بثقة:

-      قلت لأمّي بأنّ المُعلمة لا تفقه شيئا!

-      صياغة الأسئلة جميعها خاطئة! وما بُنِي على خطأ.. فهو خطأّ! فالمعلمة تطالبكم بالإجابة عن ناتج 1 ضرب صفر، وأنتِ كتبتِ 1!

-      الإجابة الصحيحة صفر كما تدّعي!

-      صياغة السؤال خاطئة، فكيف تسأل عن شيء محسوم جدليا! إذاً هذا لا يُعّد سؤالا؛ بل لا شيء!

-      وإجابتي!

-      إجابتك صحيحة منطقيًا! إذا كان السؤال لا قيمة له، فما أهمية الإجابة عليه؟!

-      إذا كان لدينا 1 وفي الجهة المقابلة لا يوجد شيء! فكيف يفقد الواحد قيمته؟ لماذا لا يظّل واحدا؟! لماذا؟

-      لأنّ فلاسفة الرياضيات أرادوا ابتكار عدد تقف أمامه الأرقام خاضعة؟! فكيف يُذلّون بقية الأرقام لولا السيد صفر؟! وهذا يجرّنا إلى سؤال أكثر دِقّة: هل لفلاسفة الرياضيات علاقة بالسياسة؟!

ظلّت صامتة.. وقالت له بعد أنْ نظرت إلى الشيب الذي يغزو مُقدّمة رأسه:

-      لو كنت تزوجت أمّي.. ستُصبح أبي؟!

مسح شعرَ رأسِها مداعبًا، وقال لها:

-      يقول الفلاسفة الذين ما زلتُ أقرأ لهم، رغم اعتراضي أحيانا على بعض آرائهم: أريد من الطالب أنْ يظهر اهتماماً ورغبةً في البحثِ عن الجواب! أنتم تريدون أجوبة جاهزة! والحياة ليست هكذا؟!

-      إذا لن تُجيب على سؤالي؟

-      ذلك ليس سؤالا، ذلك تملّق على هيئة سؤال، وأنتِ ورثتِ هذا النوع من التملّق عن أمّك!

-      أمّي تقول لأبي يوميًا: كنتُ سأتزوج بابن عمّي، لكنّ قلبي الغبي جعلني أرفضه وأتزوج بك!

-      وماذا يقول لها والدك؟

-      يقول لها: لأنَّ الله يحبّه!

ابتسم وشعر بالإحراج، بشيء يشبه الخجل، شعور لم يشعر به منذ زمن طويل، ووقف وطلب منها مُرافقته للداخل للتعرف على عائلة أمّها المجانين -كما تصفهم- وفتح الباب الرئيسي على صالة واسعة منظمة ومكتبة ضخمة تصل إلى السقف، وطاولة مستديرة قرب النافذة، وكان اللون البني الداكن هو السائد في الأثاث.. ورائحة عطرية أشبه برائحة الصنوبر.. وسيدة خمسينية مسترخية؛ فاعتدلت في جلستها عند دخوله هو والفتاة، وسألته عنها، فأخبرها أنّها ابنة "هاجر"؛ فنهضت لمُعانقتها وأجلستها قربها.

بينما فرّ هاربًا إلى غرفته؛ ليفرغ شوالا من الدموع المكتومة، غير المبررة، غير المنطقية! أو في مقام الظواهر الغريبة نادرة الحدوث! بكى بصمت.. بنشيج وأسى خافت! وهو يقف وجهاً لوجه أمام ضعفه وشعوره بالخيبة وهو على مشارف الأربعين؟ كيف مرّت سنوات عمره بين أربعة جدران، قيدها بسؤال على ورقة مُهملة؛ فحكم على نفسه وعلى ابنة عمّه بالفراق؛ لأنّها لا تناسب عقليته! وها هي الآن ترسل ابنتها من باب التشفّي؟! أو ربما شيء آخر لم يستوعبه بعد!

فتح درجه وأخرج الورقة، كانت ملامح الرسمة ما زالت واضحة مقاومة الزمن! وكان ظلُّ الحمار يحدّق في وجهه شامتاً! ساخراً!

غادر الغرفة حاملاً الورقة، ورأى الفتاة تحدّق في لوحة شجرة العائلة، كانت لوحة كبيرة مساحتها متر ونصف في متر ونصف، ووضع اسم الجدّ الأول على رأس الشجرة، فاستعانت الفتاة بأحد الكراسي ووقفت عليه بعد الاستئذان، وخلفها السيدة تُساعدها على فهم تسلسل العائلة، ووصلت إلى اسم امّها، لكنّها لم تشاهد صورتها؟! وعندما سألتها عن السبب، قالت لها:

-      أمّك نزعت صورتها من الشجرة، بعد أن وصفتنا بالمجانين؟! وقالت بالحرف الواحد: كم مجنونا على الشجرة؟!

ضحكت الفتاة، ونزلت من على الكرسي مُسرعة تجاه الباب، وقالت لهما:

-      سأرجع حالا!

فأعطاها الورقة، وقال لها:

-      هديّة لأمّك!

تناولتها، وخرجت مسرعة، وعادت بعد أقل من ربع ساعة لاهثة حاملة صورتها الشخصية، وصمغا. وقالت لعمّها قبل أن تصعد على الكرسي:

-      مزّقت أمّي الورقة!

-      احتمال وارد!

-      والاحتمال الثاني؟

-      أن ترسم حماراً آخر!

ضحكت الفتاة وهي تلصق صورتها مكان صورة والدتها المنزوعة، وقالت لهما مُبتهجة:

-      أخيرا.. اكتملت شجرة العائلة!

(النهاية)

 

 

 

 

تعليق عبر الفيس بوك