هل تتآكل الطبقة الوسطى في عُمان؟

 

د. يوسف بن حمد البلوشي

yousufh@omaninvestgateway.com

 

هناك العديد من الظواهر التي يتوجب التوقف معها ودراستها لأبعادها الاجتماعية والاقتصادية على المجتمعات، كتلك المرتبطة بتزايد أعداد الباحثين عن عمل وانخفاض الدخل المتاح للأفراد والذي لا يعتبره الكثيرون مشكلة في حد ذاته، بقدر ما هو مؤشر على وجود مشكلة أكبر في الاقتصاد؛ تتمثل في ضعف تركيبة وحركة الأنشطة التجارية والاقتصادية وعدم قدرتها على توسيع القواعد الإنتاجية والخدمية التي تستوجب معالجات وفق خطة واضحة المعالم.

وترتبط هذه الظاهرة بظاهرة أكثر خطورة هي بدء تآكل الطبقة المتوسطة في المجتمع والتي تمثل وقود التنمية في أي اقتصاد؛ لقدرتها على الإنفاق للأغراض المختلفة، والتي يمثل استهلاكها وقودًا لتشغيل وتحفيز مختلف الأنشطة الإنتاجية والخدمية في المجتمع.

ومن المعلوم أنَّ أي مجتمع وفق التصنيف الاقتصادي الاجتماعي يُصنَّف إلى 3 طبقات وفقاً لمعايير الاستهلاك والدخل والثروة؛ حيث إن الطبقة العليا هي التي يفوق دخلها استهلاكها بشكل كبير وتمتلك رصيدًا من الثروات وعادة ما تشكل في حدود 20% من المجتمعات المتقدمة، في حين تشكل الطبقة الوسطى 60% من المجتمع ويكون دخل هذه الطبقة مقاربًا لحجم استهلاكها مع إتاحة الفرصة لديها للادخار. أما الطبقة الضعيفة (الدنيا) فتكون الدخول فيها غير كافية لتغطية استهلاكها من الاحتياجات الأساسية، ولذلك تلجأ إلى الاستدانة وتحظى بالاهتمام في برامج الضمان والحماية الاجتماعية. وعُمان لديها سجل مشرف في هذا الخصوص. وفي السياق المحلي، لا توجد إحصاءات متوفرة لتوزيع الطبقات ودخولها باستثناء مسح نفقات ودخل الأسرة الذي يقدم معلومات عامة حول هذه المؤشرات، ومن وجهة نظري المتفائلة، فإن الطبقة العليا تمثل أقل من 10% من أفراد المجتمع والطبقة الوسطى- موضع حديثنا- قد تصل نسبتها إلى 70%، بينما تمثل الطبقة الضعيفة نحو 20%.

هناك العديد من المُشاهدات التي تؤكد تعرض الطبقة الوسطى لضغوط كبيرة وانحسار الدخل المتاح لديها وضعف قدرتها الشرائية لاحتياجاتها من الأساسيات واقتناء الكماليات، ناهيك عن عدم قدرتها على الادخار، والذي يمثل الخطوة الأولى في طريق الاستثمار، ومن ثم الإنتاج المحلي الذي سيُساهم في تغيير النموذج التنموي الحالي القائم على الاستهلاك والاستيراد، وهذا أمر يدق ناقوس الخطر بعدم القدرة على تحقيق الرؤية المأمولة للمحافظة على المستوى المعيشي وزيادته في المرحلة المقبلة.

ومن المشاهدات اليومية التي يجب أن لا نغفلها، خلو مراكز التسوق الكبيرة من الازدحام والحركة، وكذلك انتشار إعلانات الإيجار أو البيع أو التصفية في المواقع المختلفة، ويترافق مع ذلك زيادة الإقبال والاكتظاظ على محلات بيع السلع الرخيصة (كل شيء بريال وريالين) وغيرها. وقد يُعزى تآكل الطبقة الوسطى من بين أسباب كثيرة إلى تداعيات جائحة فيروس كورونا وما سببته من توقف في حركة الأنشطة الاقتصادية وانحسار الطلب الكلي على السلع والخدمات وزيادة التضخم وإغلاق الكثير من الشركات ومحدودية فاعلية برامج وحزم إنقاذ كافية لتقديم "الأكسجين" الذي تحتاجه تلك الشركات للاستمرار؛ الأمر الذي أدى إلى تسريح عدد كبير من المواطنين وغير المواطنين؛ حيث يُقدّر عدد من غادر السلطنة بأكثر من 500 ألف وافد، ولنا أن نتخيل تأثيرات ذلك على فقدان دورة الأنشطة المحلية للإنفاق المرتبط بهؤلاء المغادرين.

تضافر مع كل ذلك موجة التقاعدات الواسعة في القطاعات المختلفة، والتي شملت كل من أكمل 30 عامًا في الخدمة، كما إن هناك إفرازات واضحة لخطة "التوازن المالي" على دخول هذه الطبقة، والتي لا يقع معظمها ضمن الفئة المشمولة تحت مظلة الحماية الاجتماعية، جراء تطبيق ضريبة القيمة المضافة وتخفيض الدعم التدريجي للكهرباء والمياه، وزيادة عدد من الرسوم في الجوانب المختلفة. هنا نشير إلى أنَّ خطة "التوازن المالي"، كانت ضرورة وجاءت لمعالجة مشكلة متفاقمة في الدين العام وانخفاض التصنيف الائتماني، وإرساء مبادئ جديدة في إرساء ثقافة المشاركة في تحمل الأعباء وضبط الإنفاق وتوجيه الدعم لمستحقيه.

ولا شك أن الدخل المُتاح للأفراد بعد استقطاع أقساط البنوك والتي تصل إلى 50% من الدخل واستقطاع الحاجات الأساسية من السلع والخدمات، يتبقى بعده هامش ضيق للإنفاق على الكماليات والترفيه والسفر والادخار وغير ذلك.

الحكومات عادة تُفاضل بين عدد من البدائل والحلول والسياسات للتعامل مع تصدع الطبقة الوسطى وتدني قدرتها على الاستهلاك، ومن بين هذه البدائل زيادة الإنفاق العام في شكل مناقصات، ليس بالضرورة لرفع دخول الأفراد، بقدر ما هو استجابةً لضغوط الشركات ورجال الأعمال التي تعرض الطلب على أعمالها المختلفة بما فيها إيجار العقارت للانحسار. والبديل الثاني يكمن في محاولة الارتقاء بمستوى المهن والدخول في المجتمع والذي يستوجب التعامل مع العديد من الملفات المتشابكة؛ لتسهيل بيئة الأعمال وتوسيع القواعد الإنتاجية والخدمية وجذب الاستثمارات وفتح الأسواق وتغيير الذهنيات، وهذا بديل يحتاج إلى إرادة قوية وعزيمة وإصرار لا يلين، وفريق يمتلك روحاً وثّابة لديها رؤية وقصة نجاح يتوق الجميع لتحقيقها. وهناك بديل ثالث معتاد، وهو ترك الأمور كما هي لتعالج نفسها بنفسها، الأمر الذي يُفاقم من المشكلة ويُنتج تحديات اجتماعية واقتصادية وسياسية يصعب التعامل معها.

لا شك أن دول العالم المختلفة تواجه توازنًا صعبًا بين اتباع سياسات مالية صارمة لتحقيق توازنات مالية ضرورية من جهة، وبين تحفيز الاقتصاد وتشغيل قاطرات الإنتاج والحفاظ على مستوى معيشي مناسب وخاصة الاهتمام بالطبقة الوسطى وتوسيعها من جهة ثانية.

وختامًا.. نُكرِّر أن نهج التنمية ليس معادلة خطية جاهزة للتطبيق، وإنما منظومة متكاملة بأبعادها السياسية والاجتماعية والاقتصادية، ولذلك يجب أن نراعي نسيج وطبقات مجتمعنا المحلي، وأن نسرِّع الخطى في مسار تطوير الاقتصاد وتحريك المياه الراكدة في معظم قطاعاتنا الواعدة؛ لجني ثمار الانفتاح والاستفادة من المزايا النسبية المحلية.