التعليم "المُعلَّب" في قفص الاتهام

 

د. عبدالله بن سليمان المفرجي

سؤال حول التعليم في مُقدمة هواجسه ووعوده، والذي سببت أزمة كورونا (كوفيد-19) له صدمة وإرباكاً، مما جعل القائمين على التعليم يكتشفون مدى تقصيرهم في مواكبة تكنولوجيا التعليم وطرق التدريس التفاعلية، هنا بدأت تتكشف العيوب لكثير من الوسائل والطرق التعليمية، التي كانت تستخدم في السنوات السابقة ويتفاخر بها أصحاب تلك المؤسسات، ولا نبالغ إذا قلنا إن هناك "معلبات تعليمية" أفقدها الزمن والتطور المتسارع صلاحيتها، فتعرضت لما يتعرض له الغذاء المحفوظ الذي يصبح ساماً وضارا بالصحة.

لعلك تخالفني الرأي أو تتفق معي، في أنه لا توجد خطة استراتيجية مدروسة واضحة لتطوير منظومة التعليم العام والعالي في بلادنا العربية والإسلامية، بيد أن ذلك مستقبل أمة؛ فالأجيال القادمة سوف تحمل راية البناء والتطوير للأوطان. المشكلة تبدأ في أشياء كثيرة، بعض منها استيراد أفكار دون تعديلها وبلورتها بما يتفق وقيمنا وعاداتنا وديننا والخبرات السابقة لأبنائنا. وهنا أستشهد بمقولة الروائي الأمريكي تشارلز بوكوفسكي "يمكن لأي أحمق ومتسلط في هذا العالم أن يقتل الأفكار الإبداعية للآخرين بمجرد امتلاكه ثلاثة أسلحة رئيسة: حسد وغباء وسلطة على الأذكياء".

والسؤال: أين نحن من نتائج الأبحاث والدراسات في الميدان التربوي؟

إن إصلاح منظومة التعليم سيُخرج أجيالا قادرة على حل المشكلات ومواصلة التعليم ذاتيًا من المهد إلى اللحد وبعقول مفكرة وباحثة تبني كل يوم صرحا شامخا، فالتعليم بالتلقين حوّل شريحة واسعة من خريجي مدارسنا ومعاهدنا وجامعاتنا إلى جدران صماء وصناديق سوداء تحفظ المعلومات لأجل الاختبار، فلا قيمة للمعرفة التي تملكها ما لم تجعل لها بأفعالك قيمة. ما أجمل أن يعيد الإنسان تنظيم نفسه بين الحين والحين، ثم يرسم خطط الإصلاح وإعادة البناء؛ فالعقول التي تملأها شعلة التنافس لا تشيب أبداً والأفكار الجديدة بحاجة إلى من يغرسها في العقول. ويقول الفيلسوف الفرنسي دينيس ديدرو "وحده الشغف، الشغف بالأمور العظيمة، يستطيع أن يسمو بالروح إلى مقامات عالية جدا".

إنَّ القدرة على التفكير أهم من المعرفة في حين نجد في واقعنا التعليمي أنه تغلب صبغة التدريس التلقيني على الدراسة في مؤسسات التعليم العام والعالي، وتكاد تلك الصبغة أن تكون الصفة الغالبة على أسلوب التدريس حتى على مستوى الدراسات العليا، تلك الصبغة التي لا تسمح بالإبداع والتجديد، ويمكن عزو ذلك إلى الأساليب التقليدية التي يتبعها التعليم والتي تستند على المحاضرة والتلقين، وفي هذه الحالة تكون فرصة الطالب في التعبير عن رأيه ومناقشة معلمه قليلة، فحَشو الأدمغة وتَعليب المواد العلمية للطلبة ليكونوا قوالب مستنسخة، ببغاوات تكرر ما ألقي عليها دون أن تستطيع تحليل شيء وتطويره بل في بعض الأحيان لا يكون جوابهم إلا "إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون" وهُنا تَكونُ الخَطِيئة الكُبرى، في عصر أجيال "الديجيتال".

وإذا عرجنا على أبرز الطرق المتبعة في تدريس مختلف العلوم، نجد أبرزها النمط التقليدي الذي يعتمد على المحاضرة بصفة أساسية ويستخدم الأساليب الأخرى التي تتبع هذا الاتجاه، ويمكن عزو هذه المشكلة إلى عدم رغبة المؤسسات التعلمية لمجارات ما يستجد من أساليب حديثة في التدريس، فطبيعة التعليم في أيامنا تتطلب مدرسًا ذا عقل متفتح متقنًا لكل ما هو جديد، وقادرا على صياغة المعلومة وتقديمها بأسلوب مشوق وممتع بعيدا كل البعد عن السرد والتقليد وحشو الأذهان. من ذلك كان لازمًا إعادة هيكلة المقررات التدريسية وطرق التقييم وتطوير المحتويات التعليمية وطرق تدريسها وربطها بالواقع والبحث العلمي والابتكار لا بالتلقين والحفظ الأصم للمعلومات وبعدها تصبح في طي النسيان، ولا ننسى أهمية تأهيل الكادر التدريسي على توظيف التقنيات الحديثة وطرق التدريس الفعالة وأساليب التقييم. فالإلمام بمحتوى المواد الدراسية دون الاهتمام بطرائق تدريسها يشكل عقبة كبيرة في تدريسها وفي تحقيق الطموحات التي تسعى المؤسسات التعلمية إلى تحقيقها في شخصيات الطلاب؛ فطريقة التدريس تُعد همزة الوصل بين الطالب والمنهج، وهي من أهم المكونات في نجاح عملية التعليم والتعلم، ركزوا في التعليم على تعليم المهارات والخبرات وطرق حل المشكلات وطرق البحث والاكتشاف والتحليل فالمعلومات تنسى إذا لم يتم ربطها بالواقع العملي المعاش.

مؤسستنا التربوية اليوم تخرج حفظة وحملة معلومات ومعارف في الأعم الأغلب ولا تخرج علماء، تخرج نقلة يمارسون عملية الشحن والتفريغ والتلقين ولا تخرج مفكرين ومجتهدين يسمون بالعقل ويربون بالتفكير. فإلى متى هذا الوضع الذي غابت فيه بذور الإبداع وهدرت طاقات الأجيال متى نصل بالمتعلم أن يعرف ما يُريد وكيف يحقق ما يريد بنفسه أو كيف يكون اليد العلُيا في تحقيق ما يريد فينطلق بكل حماسٍ ممتشقاً عَقله ومتقلِّداً قَلَمهُ يبحث ويستَزيد مما سَرده المُعلِّم.

تعليق عبر الفيس بوك