صناعة القادة

 

د. صالح الفهدي

 

لا يمكنُ وضع مسؤولين على رأس وحداتٍ لم يُصنعوا لها، ولم يهيَّئوا للإضطلاع بمسؤولياتها، لأن "فاقدُ الشيءِ لا يعطيه"

 

حكى لي صديق أنَّه دُعي في التسعينيات من القرن الماضي إلى مأدبةِ عشاءِ في تايوان، وفي هذه المناسبة التقى بشخصين يشاركانه العشاء، فسأل الأول: هل أنتَ في عمل؟ فأجابه: لقد أرسلتني دولة الإمارات العربية المتحدة؛ لأنقل لها تجربة هذه الدول النامية في الشرق الأقصى مثل تايوان وهونج كونج واليابان وماليزيا، ثم سأل الشخص الثاني: وأنتَ ماذا تفعل هُنا؟ فأجابه: أن دولته– الإمارات العربية المتحدة- قد أرسلتهُ لدراسة الماجستير في سنغافورة، وكلَّفتهُ أيضاً أن ينقل التجربة السنغافورية ومكلَّف في الوقت ذاته من قِبل حكومة دبي بإدارة أموالها واستثماراتها في سنغافورة.

كان الرجلُ الأوَّل أجنبيًا، أما الثاني فهو محمد بن علي العبَّار الرئيس التنفيذي لشركة إِعمار وعضو المجلس التنفيذي لحكومة دبي وأحد المساعدين الرئيسيين لحاكم دبي..!!

هذه القصة تُبرهنُ على أن الحكومات تصنعُ القادة الذين ترسمُ لهم طريقاً مستقبليًا، وأدوارًا يقومون بها في إدارة بلدانهم؛ الأمر الذي يعني أنها صناعة ممنهجة تحتاجُ إلى فكرِ قائدٍ له بصيرة بعيدة المدى في الأشخاص؛ إذ يتوسَّمُ فيهم الكفاءات والفطنة والشغف والموهبة والقدرة وغير ذلك، ثم يوضع لهم برنامجًا متكاملًا ومتدرجًا يكتسبون فيه المهارات اللازمة، والمعرفة الضرورية في مدة زمنية تستغرق سنوات معيَّنة، حتى تنضج قدراتهم، وخبراتهم ويصبحوا جديرين بالمسؤولية التي أنيطت بهم في القيام بالأدوار التي يكلِّفهم بها دولهم بأفضل أداء، ولا شك بأنَّهم خلال تلك الفترة الزمنية يتعرضون للتقييم الدائم، والمراقبة الدقيقة، والتصويب المستمر.

إن صناعة القادة هي أعظم صناعةٍ تقع على كاهل قادة الدول أولاً، لأنهم يؤسسون مستقبلاً لدولهم، وأول ما يحتاج له المستقبل هو القادة الذين يجب أن يُصنعوا حتى تُناط على عواتقهم المسؤوليات الجِسام في مسيرة التقدم والتطور في أوطانهم، يقول الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي: "إصنع قادةً تصنع مستقبلاً؛ القائد الحقيقي هو مَن يصنع قادة والمؤسسة الحقيقية هي التي تخرج قادة".

لا يمكنُ وضع مسؤولين على رأس وحداتٍ لم يُصنعوا لها، ولم يهيَّئوا للإضطلاع بمسؤولياتها، لأن "فاقدُ الشيءِ لا يعطيه"، لا يمكنك إذن أن تتوقع شيئًا ممن لا يملكه في الأَساس، ولا يمكنك أن ترفع سقف توقعاتك ممن لا يملك المهارة والقدرة والمعرفة والحنكة، بيدَ أنك يمكنُك أن تصنع قائدًا ممن ترى فيه المقومات الأساسية لهذه الصناعة، ويؤكد على ذلك بيتر دراكر أب الإدارة بالقول "القيادة يمكن تعلمها ويجب تعلمها".

اُنظر إلى الشجرة التي نُقلت من موقعٍ لآخر، وقارنها بالشجرة التي نمت في المكان ذاته تجدُ أن الشجرة الثانية هي أعمقُ جذوراً، وأقوى عودًا، وأنضرُ غصنًا، وأجودُ ثمرًا، كذلك هو الفارقُ بين قائدٍ لم يُصنع ووضعَ على رأس مؤسسة من المؤسسات، وقائدٍ صُنعَ صناعةً متقنةً وفق رؤيةٍ بصيرة، ومنهجٍ واضحٍ متدرج. القائدُ الأول قد يهدمُ ما بُني سابقاً، ويهدُّ كل جهدٍ قام به سلفه لأن الغرور والجهل هما أدواته في منصبه الذي يظن أنه وصل إليه بما يملك من قدرات خارقة، ومهارات استثئنائية، أما القائد الثاني فإنه سيقوم بالمسؤولية خير قيام، وسيتقدم بالمؤسسة خطوات إلى الأمام، وستجدهُ وقد برهن عن نتاج ذلك الاستثمار وتلك الصناعة فيه فأبانه في عمله ومنجزاته.

احكُم على مستقبلِ أيَّة دولة كيف يكون من خلال "صناعة القادة" فإن توفرت فيها الإرادة والبصيرة والقرار لهذه الصناعة فإن مستقبلها سيكون عظيمًا، وإن أهملتها وأعرضت عنها، فلن تتوقع الكثير مما يقال عن المستقبل فيها!