ذات يوم!

 

موزة المعمرية

ذات يوم كنتُ في حافلة المدرسة المُنطلقة بنا للمدرسة، وعلى رصيف الشارع العام رأيت أخي المُتوفى يقف هناك مُرتدياً دشداشة بيضاء، وكان وسيماً جداً ومبتسماً لي، ظللت أنظره حتى تجاوزته الحافلة، أخبرت الفتيات أني رأيت أخي فاستغربن الأمر بذهول الأفواه لأنهن يعرفن بأن أخي قد توفي منذ أشهر مضت، حدث غريب، ولكنه حدث لي ولم أكن لأعرف كيفية تفسيره.

وذات يوم أيضاً وأنا كنت أمشي في فترة "الفُسحَة" على رمال المدرسة فجأة؛ لم أعد أقوى على التنفس، كان الأمر صعباً جداً عليَّ، أردت الاستنجاد بإحدى الفتيات ولكن لم يكن أحد يفهم علي لأني لم أكن حتى أقوى على الحديث، ثم عاد لي نفسي لطبيعته كما كان، كان الأمر هذا غريباً جداً علي وأنا فتاة صغيرة لا تفقه شيئاً مما يحدث لها أو حولها.

في المدرسة الثانوية وفي مدرسة أم جعفر الطيَّار رأيت ثلاثة شُبَّان وسيمين جداً وبيض البشرة، ويرتدون دشاديش بيضاء وعمائمهم بيضاء أيضاً، كانوا ينظرون لي وهم مبتسمون بهدوء وصمت، قال أحدهم "ليست هي، هيَّا لنذهب"، أخبرت الفتيات بسرعة عنهم فنظرن للجهة التي أشرت لهم عليها فلم يروا الثلاثة شباب، استغربن أمري وما يحدث لي، وقلن لي لا تتخيلي.

في الصف الثالث الثانوي وفجأة وأنا أُتحدث مع المعلمة في فترة الاختبار التجريبي تغيرت نبرة صوتي لصوت خشن وكأن شيئاً ما قد تَلَبَسَنِي لا أعلم، حتى الفتيات في الصف أخذن ينظرن لي باستغراب، وبعد الاختبار أخبرتني صديقتي بأنَّ نبرة صوتي قد تغيرت ولم يكن صوتي المُعتاد.

ربما لن يُصدقني أحد منكم، ولكن ما سأسرده الآن هي أحداث حقيقية واقعية حدثت معي بالفعل وكان أحدها، أني رأيت امرأة كالطيف الأسود في صغري في منزلنا، طيف هذه المرأة يختفي بسرعة فور رؤيتي لها، وتتخذ ذات الوقفة دائمًا يداها مضمومتين أمامها وكلها سواد لا يبين منها شيء، لا ملامح وجه ولا غيره، وهي ترتدي السواد دومًا.

بعد وفاة والدي العزيز، حدث لي شيء غريب لم أستطع تفسيره، شعرت أنَّ روحه بداخلي، وكأنه تجسَّد في جسدي، واستطعتُ أن أرى ما كان يرى، في يوم من الأيام عاد طيف المرأة بالظهور عندما كنت أبكي أبي بشدة ثم اختفت فجأة، دائماً طيف هذه المرأة لا يُغادرنا، ولا أعرف لماذا، أو ماذا تُريد منِّا؟!

ولا أعرف لماذا كان أبي يقول لي ما كان يقوله؟! كان يقول: "سأذهب عنكم وستبكوني"- "الإنسان يعيش وحيدًا، ويموت وحيدًا"- "اعتنوا بأمكم"- "أنا أنام كثيرًا الآن، لم يحدث لي ذلك من قبل".

لا أعرف لماذا قال ذلك؟ ولماذا لم أنتبه لما قاله؟ ولماذا تذكرت كل شيء بعد موته؟

كل تلك الأسئلة وغيرها كانت تدور في ذهني آنذاك عند شلل حركتي وملكوت فِكرِي، كُنت بين العالمين الغريبين، عالم الأحياء والأموات معًا، لم يكن لأحد من حولي ليفهم ماهية حالتي أو أن أفهم أنا ذلك، كم أشعر بالأسى، كان عليَّ أن أنتبه لكل شيء ولم أفعل، هو الآن ينتظرني في عالمه الآخر وأنا أعلم ذلك، سأذهب إليه يوماً ما، يوم قد لا يكون بعيدًا.

ذات يوم عند أداء صلاة قيام الليل، رأيتُ أبي يُصلي مع أمي، لم يكن يتضح من معالم وجهه شيء؛ لأنه كان يرتدي رداءً أبيض كبيرًا جدًا كان يُغطي وجهه، لكنه كان يُقيم الليل مع أمي، هو لم يكن موجوداً ولكني رأيت انعكاسه في شاشة التلفاز الكبيرة، كان يقف معها ويركع ويسجد معها. وذات يوم رأيت طيفه كالنور وقد اختفى فيما بعد.

ما زلتُ في داخلي أرتعش كتلك اللحظة التي سمعت فيها نبأ وفاة والدي، هذه الانتفاضة لم تُغادرني، هناك شيء غريب أشعر به يحدث في داخلي، وكأن روحًا أخرى باتت تُشاطرني روحي.

ما زال ذاك البُكاء وذات الفتاة التي ترتجف فور سماعها لموت والدها بداخلي، أشعر أني مِتُّ بذاك اليوم ورحلتُ معه، أمَّا هذه الفتاة فلا أعرفها!

أشعر أحيانًا بتعرُّق غريب ونحن الآن في هذا الفصل من فصول الشتاء، لم أكن كذلك مُسبقاً، أتعرَّقُ كثيرًا، أشعر بسخونة في جسدي أحيانًا، وببرودة أحيان أخرى! أمرٌ غريب مُريب، أرواح الأموات كذلك لا تُغادرني، جميعهم يأتوني في منامي دون استثناء!

كل هذا كان يحدث فقط في مُخيلة فتاة لم تستيقظ بعد من غفوة الموتة الصُّغرى.

تعليق عبر الفيس بوك