أجندة 2021!

فاطمة اليمانية

 

وها هي المسألة: أيّ علقم أشرب؟ أيّ إيقاع أتبع حتى أتحاشى الجنون؟". سركون بولص.

 

***

وضعت خطّتها لعام كامل؛ بدءًا من شهر يناير 2021 إلى ديسمبر 2021، وكانت تكتب كلّ بندٍ بخطّ عريض، وبلون مغاير عن البند الآخر!

واكتملت القائمة التي ألصقتها بشريط لاصق على يمين المرآة؛ حتّى تتذكر جدول أعمالها وهي تمشّط شعرها! أو بقايا شعرها الذي تدّعي بأنّه كان كثيفاً أيام الصبّا، فقصّته يوما ما بسبب رأي إحدى "خبيرات التجميل" الحاسدات؛ وبعد ذلك "غضب شعرها" وقرّر ألّا يطول مرّة ثانية!

  • لذلك هي تمتلك شعرا قصيرا، كان طويلا في الأصل!
  • وقواما بدينا، كان رشيقا في الأصل!

وأعجبها التمادي؛ لكنّها توّقفت عند خانةِ الطول، فكيف ستدّعي بأنّها كانت طويلة، ثمّ أصابتها تغيّرات الزواج والأمومة؛ فقصرّت قامتها، وازداد وزنها، وتساقط شعرها!

وتساءلت بينها وبين نفسها:

  • هل لهذه المُعضلة من حلٍّ؟!

لتسترشد بنصيحة أحدّ خبراء تطوير الذات؛ وهو ينصح السيدات بترميم المحطّم منهن؛ وبوضع أجندة عمل لمدة عام!

فأحضرت ورقةً، ورسمت خطوطا طولية لثلاثة أقسام:

  • قسم خاّص بالتغذية!
  • وقسم خاص بالثقافة!
  • وقسم خاص بحبّ الذات!

وكتبت "حبّ الذات" باللون الأحمر؛ باعتبار أنّ كل ما يعارض البندين الآخرين، ويتلاءم مع رغبات النفس؛ بالإمكان القيام به، وفي حدود!

  • حدود المنطق والمعقول؟!
  • أو الّلا منطق! والّلا معقول؟!

المهم أنْ تخدّر نفسها بكلمة "حدود" مهما كان الأمر عشوائيا، وفوضويا! كما كانت تفعل كل عام! وستجاهد ألّا تكرّره العام المقبل!

  • وقد يحالفها الحظّ، فتنتصر! لتعدّ وليمة كبيرة تدعو فيها جميع زميلات العمل عدا هِبة- لأنّها قالت لها يوما ما مازحة: عشم إبليس!
  • وقد لا يحالفها الحظُّ؛ فتنهزم كما يحدث كلّ عام- فتعدّ وليمة مواساة! وتدعو فيها جميع زميلات العمل -عدا هِبة أيضا- لأنّها كرّرت مزاحها السَمِج؛ وقالت لها: عشم إبليس! وأبوه! في الجنّة!

فتركت الرغبة بالانتصار، أو الخوف من الهزيمة؛ لتقاتلها في نَسَبِ إبليس، ومن هو والده، إذا لم يكن هو والد الجنّ والشياطين؟! وهل تبرأ منه والده؟! أو كان على نهجه؟! فكادت أن تطبق على عنقها؛ لكنّها تراجعت بعد دخول مدير الدائرة بوجه مبتسم بشوش، مردّدا على مسامعهن؛ بعد أن التقطت أذنه كلمة نابية:

  • النظام.. العمل.. الاحترام!

لتقرر الاستقالة! أو أخذ إجازة مطوّلة! حتى تستعيد ما حُرِمَت منْه بسبب العمل! متأثّرة بآراء "المرشد الروحي" الذي تتابع قناته بشغف؛ راغبة بشدّة في اقتفاء نصائحه لتغيير نفسها!

ولم تكن لتعي الكثير مما ستقوم به؛ لكنّها ستفعل.. ستحاول! خاصّة بعد استهلاكها الكثير من المبررات، مثل:

  • عدم التفرغ لعائلتها؛ بسبب العمل!
  • إهمال نفسها؛ بسبب العمل!
  • شعورها بالتوتر، والأرق؛ بسبب العمل!

وعندما وصلتها الموافقة على الاستقالة؛ تنّفست بعمق، ثم ركضت في باحة المنزل فاتحة ذراعيها؛ ولحق بها أولادها ظنّا منهم أنّها لعبة، بينما اكتفى زوجها بقراءة رسائل الواتساب، مؤمنا بأنّ للزوجات مزاجاً خاصّاً بهن؛ يتلاشى حالما يدخلن المطبخ!

وكان لعدم مشاركته في فعالية الركض، أو التطهير الروحي، أو التحرّر من الوظيفة؛ أثر في قلبها، فأخذت تنظر إليه بطرف عين مدّة من الزمن!

ويوما ما سألها:

  • من مُلْهِمُكِ، أو مُلهمتك؟!
  • المرشد الروحي تعني؟
  • بالضبط!
  • صاحب نظرية: "المرأة العصفور"!

وأعتقد في البداية بأنّها تسخر منه؛ لكنّه اكتشف فعلا أنّ ثمة نظرية أثارها أحد الأساتذة، شَبَّهَ فيها المرأة بالعصفور، الذي لا يكفّ عن التغريد؛ إلّا بعد حصوله على الإشباع المادّي، والمعنوي!

لذلك أصبح أكثر فِطنة في فهم مغزى الحكايات التي تخبرها به؛ ليظهر لها غيرته عليها من أتفه الأشياء؛ ويمتدح جمالها وأناقتها؛ حتّى لو كانت في المطبخ مُتأهبة للعراك مع العاملة، بعيون جاحظة، وشعر منكوش!

ولذلك لم يدقّق كثيرًا في "الأجندة" المعلّقة على يسار المرآة؛ بل تمنّى لها السداد والثبات في معركتها مع الذات! مع ذاتها! ذاتها هي فقط!

 فما دامت لم تُدْرج اسمه في القائمة؛ ولا اسم أطفاله؛ فالأمور عال العال، وعلى أحسن ما تكون!

مرّ اليوم الأول، ثم الأسبوع الأول، وكانت ملتزمة بما جاء في الأجندة، وظهر ذلك من خلال العلامات التي وضعتها على الورقة المعلّقة!

وفي صباح اليوم الأول من الأسبوع الثاني، فتحت عينيها المثقلتين بالنوم، وفي داخلها صوت عال سدّد ضربته لدماغها:

  • نامي!

لتواصل النوم للساعة الواحدة ظهرًا!

وفي اليوم التالي، نامت إلى الساعة الواحدة والنصف!

وفي اليوم الثالث، واصلت نومها للساعة الثانية مساءً!

 واستيقظت على صوت عراك أبنائها أمام باب الغرفة، وصوت زوجها محاولا تسوية الخلاف بينهم!

فنهضت مذعورة، ومضت في طريقها إلى العاملة بعيون منتفخة، ووجه مُتورم من كثرة الرقاد، وصرخت في وجهها:

  • لماذا لم توقظيني!
  • طرقت الباب كثيرا!
  • أسرعي وافتحي الباب الرئيسي؛ سيعود الأولاد من المدرسة!
  • الأولاد، ووالدهم في الصالة!

شعرت بالدماء تغلي في عروقها! فكيف قطعت المسافة بين غرفتها والمطبخ دون أن تنتبه لوجودهم!

توقّفت قليلاً وتذكرّت أنّها أثناء مشيها باتّجاه المطبخ لمحتهم! معتقدة أنّ مشهد زوجها وأولادها وهم يرمقونها بدهشةً في الصالة، ليس أكثر من صورة معلّقة في دماغها من بقايا حلم عابر!

كتمت أنفاسها، وشمّرت عن ذراعيها متخذة هيئة مصطنعة لمن يمشون في النوم! تلك الحالة التي سمعت عنها كثيرا، ولم يسبق أنْ حدثت معها! ولا مانع من تقليدها حتّى تعبر المنطقة الخطرة بين المطبخ والصالة، حتى ستتحاشى قدر الإمكان طلقات الرصاص من عيون زوجها، وأبنائها!

لذلك مشت مسرعة على خطٍّ مستقيم، ولم تسمع إلّا أنفاسهم! فدخلت وأغلقت الباب خلفها!

بينما اتّجه زوجها وأبناؤها إلى المطبخ لتناول وجبة الغداء، غير آبهين بها، ولا بنومها أو يقظتها، فالجوع سيّد الموقف، والرغبة في النوم بعد يوم طويل في العمل والمدارس يجعل كل رغبة للحديث قابلة للتأجيل. حتى السؤال الذي كان يثير غيظ زوجها، ويحوم فوق رأسه وهو ممدد على إحدى كنبات الصالة كذبابة عصّية على المغادرة:

 

  • ما فائدة الأجندة المعلّقة إذا؟!

ربما كانت فائدتها الوحيدة، أنّ زوجته تتأمّلها يوميا، وتضع علامة "صح" أمام الخانة التي يفترض أنّها أنجزت ما بها من تعليمات! كما فعلت بعد دخولها إلى الغرفة؛ حيث وضعت علامة" صح" أمام خانةِ:

  •  الاستيقاظ مبكّرا، وممارسة الرياضة!

ورغم استيائها من نفسها؛ إلّا أنّها كانت تخدر ضميرها بحكمة "المرشد الروحي" الذي يطالب متابعيه بترديد أشهر فلسفة في قانون الحياة كما يدّعي، وهي:

" أنا أحبّ نفسي كما هي! دون شروط! وقرّرت أن أتقبلها كما هي!"

وبسهولة شديدة عثرت على مبررات لكسلها؛ فما الهدف من الاستقالة إن لم يكن النوم؟!

  • إيجاد النصف الآخر من روحك المطحونة في نظام العمل!
  • ممارسة هوايات مدفونة؛ غيّبها العمل!
  • الهروب من العمل!

أو الهروب إلى الحمّام لتطرد بقايا النعاس؛ وبقايا الوعود الكاذبة، وهي التي أقسمت أنْ تقضي أجمل أوقات عمرها بعد الاستقالة! وأن تستيقظ باكرا، تجهزّ أبناءها للمدرسة، ثم ترافقهم إلى الباب، وتتأملهم وهم يصعدون الحافلة، وترسل لهم قبلات من بعيد، ثم تعود إلى الداخل لتشرب الشاي والقهوة الصباحية مع زوجها، قبل أن تودعه بابتسامة ودعوة قلبية صادقة!

لكنّ الواقع نسف هذا المشهد الدرامي الذي كانت تتخيله بعد مشاهدة الإعلانات والدعايات في التلفاز؛ ليستيقظ أولادها ويصعدون الحافلة ويغادرون، ويلحق بهم زوجها، وهي ملتوية في أكبر بطانية في المنزل، ولا تردد كل صباح إلّا جملة واحدة حفظها جميع من في المنزل عن ظهر قلب:

  • اغلقوا الإضاءة.. اغلقوا الباب!

(النهاية)

تعليق عبر الفيس بوك