الشيخ حمد الطائيّ.. «سليل الشعراء وجوهرة الأدباء» (4)

ناصر أبو عون

nasser@alroya.net

 

في البحرين وجد الشيخ حمد بن عيسى الطائي نفسه محاصرًا بجواسيس الميجور براون، يُنغضُون إليه رؤوسهم، وينغِّصون على أهله معيشتهم، وينصبون له فخاخ مكائدهم، ويصنعون له الكمائن في طرقاتهم، ويستدرجونه إلى أشراكهم؛ رهينَ محابس ثلاثة؛ محبس الغربة التي لا تكلّ عن النهش في روحه وبدنه وتقضّ مضاجع رقدته في هدأة الليل الساجي وتوقظ طائر الكرى شاديًا أغاني السُّهاد في وحدته وتُمايس مرارةَ العيش في مشربه ومأكله وتساقيه كؤوس الصبابة والنوى، ومحبس المطاردة من البصّاصين والأعين المترصدة تعد عليه أنفاسه، وتبيت ما بين جلده وسرابيله لتستكشف أحواله وتتلصص على أفكاره تسيمه القلق وتطبي الوساوس إلى مخدعه، ومحبس زوج عروب رؤوم تتأبط شقاءه وتستظل في نعمائه وأولادٍ صغار مثل زغب القطا يرافقونه رحلته يبيتون في رحاله ويستهنئون بصحبته.

فدخلوا عليه داره، وروعوا أهله وأطفاله، ونبشوا كوامنه وأدراجه، واقتادوه مأسورا، إلى ثُكنتهم قيدَ التحقيق، ومنعوا عنه الزّيارة؛ فبات بين ظهرانيهم واجدًا محزونًا، يزفر دخان شدته، يخشى الضواري على آل بيته وعشيرته يسترجع في ذاكرته المتقدة قول الشاعر: (أملي من دونه أجلي ** فمتى أُفضي إلى أملي)، يصارع طواحين البَين التي تنهش صدره، ويشكو الظلم الذي يضرب بجرانه أركانه المتأثلة، ويتعسَّف في التنكيل بآماله، وكان الحابس له تأخذه العزة بالإثم في المحاكمة، ويسابقه في مُرْوَد المخاصمة ويتمنطق النكايةَ خَلّةً يتخايل بها ما بين العاتق والكاشح، ويرفع لواء الحيف مفاخرا بتغوّله في الخصومة.

وأثناء جلسات التحقيق في أقبية الاستخبارات الإنجليزية، عاود العسس اقتحام البيت، وهتك حرمته، ونكأوا راحة أشباله، وأدخلوا القلق إلى مسارب مأمنهم فسرى الروع في دمائهم، غير أنهم وجدوا امرأة شَمَم؛ زوجَ رجل هزبر ضيغم، تتلفّعُ مِعْجَرَ الفضيلة من أخمص قدميها إلى مفرق إبائها غير مُبالية، حلب الدهر أشطره على رأسها تأبى الدنيّة في عرضها ودينها، ولو كانت ظَبَا السيوف تحزّ حبل وريدها، والجحافل المدججة تلبس الزعف المتصلصلة تحاصر أنفاسها وتُصدِّع صُمّ الصفا في أركان بيتها.

فبعد أن أهال رجال الميجور بروان أثاث المنزل على غبرائه، ونبشوا مقاعده وشقوقه، وأماطوا خباياه وأزروا محياه لم يجدوا غير رسالة مخطوطة وردت إليه من أشقائه في مسقط للاطمئنان على صحته وعياله والسؤال عن أحواله.

ظلت زوج الشيخ حمد بن عيسى الطائي وأطفاله بلا رفيق ولا أمين يقوم على شؤونهم، حتى حضر شقيقه «حمود» فقام على رعايتهم، وأوقف نفسه على خدمتهم ليل نهار، ويتابع أخبار أخيه من خلف أظهر الخصماء، بعد أن غيَّبوه في غُرف التحقيق الدارسة بين الهواجل الموحشة، وأقفلوا الأبواب في وجه من رغب في زياته، ويَفْجُرون في الخصومة ويظهرون له عينًا خوصاءَ من الشر غائرة.

وبينما الشيخ المُغيّب وراء القضبان يشدُّ على بطنه أنساع الصبر، ويُكَتِّم أوجاع شحناء تضغم لحم قلبه الصابر، قيَّض الله له جنوداً من بني جلدته، يقشِّرون عن روحه الحبيسة غُلالات الحسف، ويتفاوضون لفكِّ أسره وإماطة غَمامات البرحاء عن محنته، ويحفرون بأظافر من صمود لا يخالطه ملل في جدران زنزانة الضيم المُعتمة؛ لتهتك أنوارُ الحقيقة أستارَ الظلامية، ويبدّدَ نورُ الحق غشاوةَ الحُجب الظالمة، وتتسع كُوةَ الأمل رويدًا رويدًا في قلوب الصغار المتلهفة والزوج الصبور السَّجُود الصابرة.

ولأنَّ النصر من قرناء الشيخ حمد بن عيسى الطائي؛ فلا ينقطع المدد الإلهيّ عن مباركته، ولا تنفصم عروة الرعاية الأسرية عن مؤازرته فقد تكللت مفاوضات الشَّابين العُمانيين (شامس العامري، ومبارك الهاشمي)- وكانا منتسبين حينها إلى جهاز الشرطة البحرينية- في الإفراج عن الشيخ شريطة إبعاده عن البلاد، وتركوا له خيار التوجّه إلى أي قُطر خليجيٍّ تأنس إليه روحه، وتستهويه نفسه؛ ويطوي صفحة الليالي الداجية، ويبدد الظلمة الساجية في محبسه؛ فوقع اختياره على دولة قطر المُتوحّدة قبائلها على أكناف (أسرة آل ثاني) منذ ستينيات القرن التاسع عشر، تحت راية الشيخ محمد بن ثاني، فدخلها آمنًا تحت راية حاكمها الشيخ أحمد بن علي آل ثاني غداة النَّفر من محبسه.

في تلك الأيام كانت دولة قطر تسعى لفكِ إسارها من ربقة الاحتلال البريطانيّ، والتملّص من قيود الماضي الغابرة، وتقمص برحالها من ظن أنها لقمة سائغة، وتنضّد قادم الأيام تحت لواء المجد وترفرف على قلاعها رايات النصر؛ إلا أن الشيخ لم يطِب له المُقام فمازلت أعين الاستخبارات الإنجليزية تتعقّب خطواته في سائر المهاد، وتتشوّفُ على حركاته، وترصد سكانه في الوهاد، وتَعُدّ عليه أنفاسه في البجاد النجاد.

لم يكن الشيخ نُهزةً مستسهلةً، وإن مشت إليه المصائب تَتَرى، فقد ذرأ الله نطفته على الصبر، وكان سبط اليدين، ينِزّ جبينُه مروءةً، صُلْب العزيمة لا تهتز فرائسه إن لمعت الصوارم القاطعة، غير هيّاب إن هبّت ريح السموم القائظة.. فلمّا ضاقت عليه حلقات الدهر، ارتأى أن يرتحل إلى الساحل الشرقي لعُمان فأهله أقرب وشيجةً ومن سلالته، وشيوخه من رهطه وبني جلدته وبين ظهرانيهم سيكون له قرار مكين ويستدفئُ في أكمام قومٍ مرعيًّا بين أرحام أهله وعشيرته فتأنس روحه بخدنها، وينعس جفنه بين جوانحها، ويتكلل مسعاه بين أفيائها؛ فكانت دُبي مقصده.