التعليم الأولوية القصوى

 

د. خالد بن حمد الغيلاني

Khalid.algailni@gmail.com

@khaledalgailani

 

قبل الشروع في كتابة مقال هذا الأسبوع كنت قد عقدت العزم على الكتابة في شأن السياحة، خاصة مع إجازة عيدنا الوطني المجيد، ولكن بعد جلسة حوار كثيرا ما تحدث مع العديد من الإخوة والأصدقاء، وجدت التعليم يشّدني إليه شدًا، وكان محور النقاش أيهما يأتي أولا ويمثل أولوية قصوى؛ التعليم أم الاقتصاد؟

وحقيقة الأمر أول ما يتبادر لذهن الواحد أنَّ الاقتصاد أكثر أولوية للأسباب الظاهرة والواضحة، أو بمعنى أكثر دقة لإحساسنا الفطري بأهمية المال ودوره المعلوم، وحاجة الجميع إليه.

لكن مع مزيد من التأني والتعمق وإعمال الفكر القائم على الثوابت والمنطق، وجدت أن العلم يأتي أولا، ويجب أن يكون أولوية قصوى، بل وتسخّر كل الإمكانات لرقيه وجودته وتنوعه، ولعل سائلاً يسأل لماذا؟ والإجابة بسيطة وواضحة؛ فالمال في يد من لا يستطيع إدارته وحسن التصرف فيه وتنميته واستدامة موارده ومصادره، والعمل على توسيعها وزيادتها؛ فهذا مال زائل بالصرف منه، سبيله للنفاذ أقرب بكثير لأنه مال لا ينمو، ثم كذلك بنظرة سريعة إلى عدد من الدول المتربعة على قمة الهرم الاقتصادي نجد عددا منها ليس ذا موارد طبيعية، وإنما هذه الدول تصدّرت سلّم العلم من حيث جودة المدخل، وحداثة الأدوات، ووضوح الصورة، فكان الناتج مذهلا، والعائد المالي من العلم المتطور أولاً ومن الاقتصاد الواثب نحو المستقبل ثانيا عائدا مكّن هذه الدول من حضورها الفاعل والمؤثر عبر منصات السياسة والاقتصاد.

لذلك فإننا اليوم مطالبون أكثر من أي وقت مضى ليكون التعليم الذي نرجوه وخططنا للوصول إليه ذا أولوية قصوى؛ وهذا يعني تسخير كل ممكن مادي، ودعم ومساندة ليقوم التعليم بدوره كما ينبغي، وليس كما يفرضه الواقع، ولابد أن تقف كل المؤسسات المعنية بالتخطيط وتوفير متطلبات التنفيذ، مع المؤسسات ذات العلاقة بالتعليم صفاً واحدًا، هذا الصف يعلم علم اليقين أن التعليم هو وحده السبيل الأمثل والأدوم لاقتصاد مستدام، يحقق ثباتاً ماليا واضحا، ونموا اجتماعيا يصل ببني وطني إلى مستوى الرفاه المأمول والمقصود.

لقد آن الأوان لنرى التعليم متربعاً على قمة الأولويات الوطنية، وحقيقة هذا الأمر ليس جديدا فمولانا جلالة السلطان المعظم قال قوله الفصل في هذا الجانب، ورؤيته الحكيمة تجاه التعليم، بقي الآن على الجميع القيام بدوره تجاه التعليم ليكون أولوية قصوى ومنطلقا وطنيا، وأقترح لمن يعنيه الأمر، أن يكون العام القادم والذي يليه عامين للتعليم في عُمان، وهذا لعمري سيدفع بالجميع للعمل من أجل تعليم نموذجي متطور يقوم على المشاركة، ويدعم الابتكار، ويسعى لاقتصاد المعرفة.

ثم في نقاش تربوي اجتماعي جميل مع عدد من الإخوة المختصين والمهتمين بالشأن العام، والذين يرون عمان منارة شامخة، وتاجاً على الهامات، كان النقاش عن وزارة التربية والتعليم وكثرة اختصاصاتها، والتساؤل محل النقاش؛ هل الوزارة بشكلها الحالي وهيكلها المزدحم، وأعمالها المترامية في نطاق جغرافي كبير من الممكن السير بالتعليم نحو ما تريده عمان ويحقق أهدافها العظيمة بعظمة حضارتها وهمم سلطانها وأصالة شعبها؟

وجوابًا على هذا التساؤل، وسعيًا إلى جودةٍ للتعليم تجعله على رأس الاهتمامات الوطنية، وتدفع به نحو المستقبل على أرض صلبة، وقاعدة متينة؛ نعم لابد من تخفيف العبء الملقى على عاتق الوزارة؛ فمثلاً؛ من المهم أن يكون للمناهج جهة مستقلة تعمل على تحديد أسسها ومعاييرها وضوابط إعدادها وأهدافها الوطنية، ومن الممكن أن تتبع هيئة الاعتماد الأكاديمي مثلا ليكون هذا التقارب دافعا لتكامل الأدوار التعليمية بتكامل التعليم المدرسي والجامعي، لماذا لا يتولى برامج تطوير المعلمين وإعدادهم جهة مختصة بهذا الأمر يتم من خلالها رسم سياسة التطوير للمعلم بما يتفق مع التعليم بشكله المستقبلي، بدلاً من إرهاق الوزارة بهذا الأمر واستهلاك جهدٍ وقت، ثم لماذا لا يكون للتقويم وأدواته ومعاييره جهة مُختصة بهذا الجانب تمكّن المجتمع من مخرجات نالت قسطها من التعليم ووصلت إلى المستوى المطلوب من الكفاءة والمهارة؛ بدلاً من اهتمام قائم على الحصول على الدرجات أياً كانت الوسيلة، واهتمام عفا عليه الزمن بالصف الأخير والسنة الأخيرة، وامتحانات تمثل رعباً أكثر من كونها وسيلة للتقييم والتقويم والبناء.

لماذا لا تتولى المحافظات أمر مدارسها تخطيطًا وبناءً وعملًا ومتابعة، وتنقل مخصصاتها لمكاتب المحافظين، ويكون لها الاستقلال الإداري والمالي، ثم تتفرغ الوزارة لدورها الحقيقي المتمثل في بناء السياسات والاستراتيجيات ومتابعة الخطط والبرامج في إطار وطني واضح، ويختصر الزمن، ويصل بنا إلى الغايات والأهداف دونما مشقة ومُعاناة، ثم هذا التنوع سيعمل على تأصيل مبادئ الحوكمة في التعليم والتي نسعى إليها، فالواقع الحالي من الصعب تفعيل الحوكمة فيه، ولعلَّ وعسى نرى قريباً ما يمّكن من قيام نظام تعليمي قوي ومتين.

حفظ الله تعالى عُمان الغالية بلد العلم والعلماء، وموئل الأدب والشعراء، بلداً رائداً في العلم، متقدمًا في المعرفة، طموحاً شغوفاً، وحفظ مولانا السلطان المعظم نبراسًا نستمد منه العزيمة، وتمضي عُمان في عهده الميمون نحو آفاق المجد والسؤدد، وحفظ الله تعالى أبناء عمان كراماً أعزاء؛ أهل علم، وقادة معرفة، وروّاد بذل وبناء.