رسالة لاجئة عبر البريد

 

عائشة السريحية

ربما إن قرأت رسالتي هذه،  فهذا يعني أن أحدا ما استلمها، وربما سألت نفسك لم قد يرغب شخص في استخدام البريد، وسأجيبك لأني أعلم أنك رهين لعلامة الاستفهام، هناك أشياء كثيرة لا تعرف لم تحدث! كأن يحدث الدمار في عصر تملؤه بروباغندا حقوق الإنسان، وأن تحدث الحروب في زمن الكل ينادي فيه بالسلام، وأن تفقد الوطن في زمن المواطنة.

ألا ترى أن هناك أشياء كثيرة لا تستطيع الإجابة عنها؟

لا أخفيك سرا أني قد فكرت أن أسجل فيلما قصيرا وأبثه عبر التويتر، ولا تسألني لم عبر التويتر لأني لن أسامح جهلك بتداول الهاشتاج والترند! أو أكتب قصتي كمنشور على الفيس بوك ليتبادله رواده طالبين الإعجاب والمشاركة. لكني ما زلت عالقة في ذلك الزمن الجميل الذي كنَّا نقرأ فيه عن شعراء المهجر، كجبران خليل جبران ومي زيادة وبقية الكتاب الذين سخروا البريد لعبور رسائلهم.

كتبتُ رسائل كثيرة، فوحدة الروح تجعلك كاتبا، لم تكن الحياة لتهديني أكثر مما حصلت عليه، فأنا الآن على قيد الحياة، لذا أنا ممتنة كثيرا، ربما لا تشعر بنعمة أن تكون حيا، لا عليك فالظروف مثل حالات الطقس عند زمهرير البرد ترتدي الملابس الثقيلة وفي الصيف تكاد تتعرى.

حين قررت هذه المرة أن أكتب تذكرت عجوزا أوروبية أهدتني كتاب السر، قرأته وحاولت جذب كثير من الأشياء بقوة الفكر، وحين وضعت الرسالة في صندوق البريد فكرت بشدة في أن يقرأها أحد ما، حقا أنا لا أجيد كتابة الرسائل الغرامية وهذا اعتراف صغير مني بذلك، فقلبي لا يستطيع أن يؤدي وظيفة غير النبض لاستمرار أعضائي الحيوية في العمل، رغم أني مازلت في العشرين من عمري، وكل شيء أخذ مني مبكرًا!

أتذكر حين كنت صغيرة، كان الجميع يسألني: ماذا تريدين أن تصبحي في المستقبل؟

كانت إجابتي هي تلك الوحيدة التي أعرفها: طبيبة.

أما اليوم، فلا أشعر بالسعادة، ولا بالحب؟  يغلفني برود ينطوي على نفسه لايغذي روحي إلا بالحزن والوحدة، رغم أني أدرس الطب الآن، فيالها من مفارقة بغيضة، ماكان حلماً بالأمس أصبح مجرد روتين اليوم.

ولا أعرف لماذا أشتاق لعروبتي بين حين وآخر، أغني "وطني حبيبي، الوطن الأكبر، يوم ورا يوم أمجاده بتكبر"، لمحمد عبد الوهاب، أتصفح البلدان العربية، أتوغل في أحداثها، وجغرافيتها، موروثها وعاداتها، كل بلد قررت أن  أرسل له خطابا، مجهول العنوان، ربما يقرأه أحد في يوم ما.

يا للوحدة التي أمارسها، ولولا تلك اللحظة المصيرية التي قلبت حياتي رأسًا على عقب، لما عرفتها.

كان يومي يبدأ بتناول الإفطار مع أمي وأبي وإخوتي الثلاثة، طارق  أكبرنا، يحلم بأن يصبح رائد فضاء، وخالد بعده وكان حلمه أن يصبح بطل سباق سيارات،  وسيف الذي كان يجيد كتابة الشعر والنثر، يتقمص شخصية الشعراء واحدا تلو آخر، ويلوح بعصا كان يخيل إليه أنها سيفا، ثم يبدأ في قول الشعر، وكأن لسان حاله

يقول: أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي وأسمعت كلماتي من به صمم. ولأني الفتاة الوحيدة، كنت أشعر أني مدللة.

بعد أن ننهي فطورنا أتوجه للمدرسة، المسافة لم تكن بعيدة جدا، فقد كانت تمنحني فرصة للحديث مع الذات، وحين أعود من المدرسة أجد أمي تبتسم وتسرع لحمل الحقائب عنا، ونستعد لتناول الغداء على بساطته، ومع ذلك كان الطعام بالنسبة لنا لذيذا، كنَّا أحيانا نتعرض لانقطاعات التيار الكهربائي، فنشعل الشموع وتبدأ أمي بسرد القصص الشعبية، التي كانت بعضها مخيفة تحكي عن قصص الجن والعفاريت، فأندس في حضن أمي وسط ضحكات إخوتي.

لم يكن العالم الخارجي أو السياسي يهمنا كثيرا، كنا نسمع الأخبار لمجرد السماع، كانت أمور حياتنا البسيطة هي جل ما يتحدث عنه والداي.

وفي يوم دون أن نعي أن كل شيء تغير، تسقط قذيفة على منزلنا الدافئ الصغير، فتسرق أرواح كل من أحاطوا بي، خرجت مختنقة بغبار البارود والأتربة، أبدو كشبح لا أعرف ماذا حدث، أصرخ في عتمة ليل لا نور فيه، ولا مجيب، تسيل الدماء من وجهي وذراعي، أصوات ضوضاء عالية جدا، الخوف يلتحفني، والموت يقبع في حواسي، كنت عاجزة جدا، لا أستطيع سوى البكاء، محتضنة حجارة المنزل المهدم.

لا أعلم هل نمت حينها أم أغمي علي، اليوم الثاني وجدت نفسي يتيمة، الجميع يصور وجهي البائس وتتناقل قنوات الأخبار قصتي، يالها من شهرة تعيسة.

 نقلوني من مكان لآخر، عدسات الكاميرات هي ما تصلبت عيناي عليه، لم أستطع الحديث، لا أدري كيف أجيبهم، مصيبتي أكبر من الحديث، بلدتي كانت تحترق وهناك الكثيرون نالوا مانلته، أردت أن ألقي نظرة على حارتنا، ربما أجد أحدا من أصدقائي، ولم أفلح، كنت خبرا جيدا ومادة دسمة يتم تداولها بين الإعلاميين، فقدت مدرستي أيضًا فقد سمعتهم يتحدثون عن قصف ألم بها، بعد أن تحولت لفترة وجيزة لملجأ، كم رغبت بالموت واللحاق بكل أحبتي.

بعد عدة سنوات من هذا كله، وجدت نفسي قد خضت رحلة لا يسعني المقام أن أسردها هنا، فالبؤس حين يزداد سعيره، يجعل المرء مكتفيًا بذكر اسمه فقط.

اليوم أنا في أوروبا تحت مسمى لاجئة، معظم أيامي تدور حول التعليم والبحث عن عمل، ربما أستطيع أن أتناول طعاما ألذ، وأرتدي ملابس أجمل، وأجد حماما أكثر دفئا، وربما أستطيع أن أخرج مع أصدقاء جدد، لكني لا أشعر بالحياة.

لذا قررت أن أكتب لكم في البريد،  أريد أن أخبركم، أن الوطن ليس مجرد رفاهية تحلمون بها، وليس مستوى حياة راق تطمحون للوصول إليه، قد تبحثون عن أي عمل يخلق لكم فرصة للعيش، وربما بعض الأعمال لن تشبع جوعكم، وربما بعض المهن لن ترضي طموحكم، وربما بعض الفرص لم تحن بعد، لكني أؤكد لكم أنكم أكثر حظا، كانت ذكرياتي قد بنيت على أحبتي، لكنهم خطفوا جميعا، وفقدت ذراعي وسرقت كليتي، وصلبت لافتة كتب عليها، الحرب.

هل تعرفون لم كتبتها أيضًا، لأني أغبطكم كثيرا، ليتني حين ولدت، خيرت مابين الأوطان، كنت سأتجنب البلدان التي يسرق فيها الفرح، ويلبس صغارها السواد، وتلك البلاد التي لا يأمن فيها المسافرون برا وبحرا؟ وتلك التي يتوسط جغرافيتها قطاع الطرق، أو تتخفى فيها الجماعات الإرهابية، أو تسكن أزقتها عصابات تختطف سعادتهم وربما حيواتهم.

كنت سأختار أي بلد  يشع أمانا وأمنا، لا يضيع المرء فيه عند مفترقات الطرق، بلد يلعب فيه الصغار، ثم يعودون لمنازلهم دون الخوف أن يتم الاعتداء عليهم أو اختطافهم وبيع أجسادهم وأعضائهم.