دمعة على الحياء

 

إسحاق بن أحمد البلوشي

Isehaq26927m@gmail.com

 

ماتت بالأمس أم زفر الحبشية الأسدية، فلم نجزع لموتها ولم نسكب العبرات، وكفكفنا دموعنا تسلياً بأنَّ للأمهات خلفاً في البنات، وأن للآباء خلفاً في الأبناء، وأن في القادم جمالٌ وغنى عن الماضي، فقد مضت الأيام تلوَ الأيام على عهدها، ومرَّت الشهور والدهور على موتها، ولا نرى إلا أن الحياء قد دفن معها، فلم نجد له وزناً، ولم نسمع له همسًا، فأين خلف الأمهات والآباء الذي انتظرناه، وأين جمال القادم وغناه، فهل عجزت الأرحام أن تلد أم زفرٍ أخرى؟

قال ابن عباس لعطاء: ألا أريك امرأة من أهل الجنَّة؟ قال بلى، قال هذه المرأة السوداء، أتت النبي صلى الله عليه وسلم يوماً فقالت: إنِّي أصرع وإنِّي أتكشف فادع الله لي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم إن شئتِ صبرت ولك الجنَّة، وإن شئتِ دعوت الله أن يُعافيك، فقالت أصبر وقالت إنِّي أتكشف فادعو الله لي ألا أتكشف، فدعا لها النبي صلى الله عليه وسلم.

عندما ننظر إلى قصة هذه المرأة التي وصفها ابن عباس بالسوداء، نجد أنَّها سطرت اسمها على صفحات الحياء ولم تطلب حظاً في هذه الدنيا سوى حظها من الستر والعِفة، وعندما نقارن حال هذه المرأة العظيمة وحال بعض النساء والفتيات اليوم نجد أن بينهما بوناً شاسعاً، واختلافاً واسعًا، فتطلب هذه المرأة ألا تتكشف بقهر مرضها، وما أعذرها الله فيه، وتطلب الفتاة اليوم عذراً لتتكشف، وتحذر تلك المرأة من أن يصاب سترها بشيء من الفساد، وتسابق هذه اليوم في الفساد والإفساد وتعريها للعباد.

فأيُّ قلب يستطيع أن يهدأ بين جنبي صاحبه، وأي قلمٍ يجمل به ألا يسطر كلماته لما وصل إليه حال بعض النساء والفتيات اليوم من سخفٍ في اللباس، ومن قبحٍ وبذاءةٍ في الألفاظ، فتبدي هذه شيئا من شعرها، وتبدي تلك شيئًا من ساقها، وتتصبغ أخرى بألوانٍ وألوان، ثم تخرج متعطرة مُتبرجة، ضاحكةً مستبشرة، تتباهى ويتعالى صوتها أمام الرجال، جعلت نفسها نداً ومنافساً للرجل، تُريد مساواةً به، فآذت أنوثتها، وأنهكت بذلك عذوبتها ورقتها.

لماذا ازدادت وتيرة السباق بين الفتيات في التخلي عن حيائهن وسترهن؟ ولماذا أصبحت تعاليم الدين التي تنادي بفضائل الأم ووفائها، وبعفةِ الزوجة وأنوثتها، وبطهرِ الفتاة وعذوبتها، شيئاً منسياً لا يُلتفت إليه؟ لماذا بدت ثياب المرأة تشفُّ وتصف، وتقصر شيئاً فشيئاً، حتى بدت السُوَق، وتعرَّت الأيادي وباتت تلمعُ وتنادي؟

لماذا خلعت المرأة حجابها، وكشفت عن نفسها أمام أعين الرجال؟ لماذا فقد بعض النساء خجلهن وسقط حياؤهن وأصبحت مسترجلةً تنافس الرجل على رجولته، وتتفاخر بطلب المساواة به، ألم تعلم هذه بأنَّ الله الذي خلق الذكر والأنثى أودع سراً في عدم المساواة بينهما؟ ألم تعلم أنَّ الإنسانية تأبى وترفض تلك المساواة، وأنَّ في المساواة ظلماً لها؟

لا يعتري العاقل شك أنَّ للنتائج مسببات، وأن للنهايات بدايات، ولا يمكن أن يكون هناك سبب ليس له أثر، ولا يمكن أن يكون هناك أثر ليس له سبب، فإنَّ محاربة الحياء وصفات الأنوثة عند المرأة واعتبارها رجعية وتخلفاً،  إنما يعزى سببه إلى كثيرٍ من المتغيرات الدخيلة على مجتمعاتنا، والأهواء والرغبات الشاذة التي يتبناها بعض المتطفلين على قضايا المرأة، الذين يرددون ما يسمعون ولو كان ثرثرةً وسخفاً، ويتذوقون ما يشتهون ولو كان مراً علقمًا، ليس لحاجة سوى حاجتهم للشهرة والظهور.

تجملت الشهرة في نظرهم فرأوا الرذيلة فضيلة، وتجمل الظهور في أذهانهم فرأوا الفضيلة رذيلة، فما لبث مخاض هذا الفكر وتلك الثقافة إلا أن جاءت بالنسويين والنسويات ودعاتهم فأصابت الأمة في مقتل وأي مقتل!

إن النسوية جاءت محملة بطلبات التراخيص وبشعارات تنادي بها وبمصطلحات غريبة تدسها لتشويه الصورة العظيمة للمرأة المسلمة، تارة يتحدثون عن المجتمع الأبوي، وتارة عن المجتمع الذكوري، ويعقدون بعض المقارنات التافهة لحقوق المرأة والرجل، ويطرحون أسئلة واستفهامات بما للجهل من وجه قبيح حول العدالة الإلهية، وأن التشريع الإلهي لم يأتِ بالعدل إلى المرأة بل ظلمها ظلماً شديدا، ويجب تطويعه وتفصيله بحسب زعمهم من جديد ليتوافق مع مقاساتهم ومزاجاتهم وإلا فهو تشريع!

نقول لهؤلاء (ويلكم لا تفتروا على الله كذباً فيسحتكم بعذاب وقد خاب من افترى)، واعلموا أنَّ سقطات الفكر أشد وقعاً وزلزلةً على البشرية من سقوط الجبال الشم عليها، وأن تعري الفكر من قيمه ومبادئه أشد قساوةً وإيلاماً على الإنسانية من تعري الأجساد من لباسها وحشمتها.

أيتها الفتاة احذري.. احذري أن تكوني تائهة بين شعارات النسويين وحاذري أن تكوني حائرةً بين أفكار النسويات.. هم دائمًا يزينون فكرهم بأنهم طلاب حقوق المرأة. ودائمًا ما يغطون إعوجاج مطلبهم بأنهم أنصار مظلوميتها.. احذري ذكاءهم الخبيث، وما يدندنون حوله من الحرية للوصول إلى أبواب الطهر التي تتزينين، وأبواب العفة التي تتسورين..

أيتها الفتاة احذري.. احذري أن تخدعي بأقوال فلاسفتهم الذين عجزت عقولهم عن فهم مقتضيات الدين، وأحكام التشريع، وسنة الخالق في خلقه.. عجزت عقولهم عن فهم أنوثة المرأة وحيائها، فقالوا لا وجود لك إلا بالتخلي عن أنوثتك فهو مصدر ضعفك.. عجزت عقولهم عن فهم معنى الزواج فقالوا إنِّه قيد وأغلال، وإنه شؤم ووبال، فنادوا بالطلاق والطلاق..

أيتها الفتاة احذري.. احذري أن تتلوَّث أفكارك بالتمدن المذعوم، فيتجاوز ذلك إلى طباعك، فيكون وجودك في مجالس الرجال كوجودك في مجالس النساء..

احذري وجودك بين الشبان الذين أظهروا زينةً خادعة وقربوا لك الفاجعة، فوجودك بينهم إنما وجودك بين الشهوات والرغبات، وبين النار واللهب، فإذا سقطت بينهم سقطت سقطة العار..

احذري فخ الكلمات ومصائد العبارات، التي يزينها هؤلاء الشبان بين الحب والزواج، والصداقة والعلاقات، وبين زمالة العلم والمحاضرات، فإذا سقطت بينهما سقطت سقطة العار..

أيتها الفتاة احذري.. احذري ولا تكوني كالتي طوقتها حبائل الشيطان فلا تستطيع سبيلا، واعلمي أنَّ الشيطان لو خُير أن يختار عوناً على الفضيلة ما اختار إلا المرأة السافرة المتبرجة، واعلمي أن أبليس لو اختار خليلاً إلى الرذيلة ما اختار إلا المرأة التي تمردت وفرطت في أنوثتها واسترجلت..

احذري دعاة الفجور والسفور وأعداء الستر والحجاب، الذين قالوا باسم الحرية الشخصية أقوالاً فقدت شهامتها وعدمت صرامتها واختل رأيها، فتفردت بالدناءة والسفاهة، وتميزت بالنذالة والوقاحة..

فقد قالوا: أليس الشاب حراً وإن فسق وإن فجر؟

وقد قالوا: أليست الفتاة حرةً ولو خرجت عارية؟

بل تجاوزا الحد وتخطو الخط فقالوا: أليس الاختلاط وجلوس الفتيات مع الشبان في المقاهي والطرقات حريةً شخصية؟ ثم أجرموا جرماً لا أراه يغتفر حينما قالوا: أليست العلاقة الجنسية بالتراضي حرية شخصية؟!

أيتها الفتاة احذري.. احذري ميزانهم المعوج الذي إذا كالَ يُخسر أو وزن يُخسر، ففي ميزانهم المرأة التي خالطت الرجال هي رمز للمرأة المُتحررة، وفي ميزانهم المرأة التي مزَّقت حجابها هي رمز للمرأة المتحضرة، هذه هي الحرية التي يدافعون عنها ويتشدقون بها، وتلك هي المساواة التي يريدونها.

والله أطلقها يميناً غموساً أضعها في عنقي، إنهم لا يريدون بذلك صلاح المرأة وصلاح أمرها، ولا يريدون بذلك تمدنًا وتحضرًا، ولكنهم وقعوا تحت وطأة الأهواء، واستحكم فيهم ذُل الشهوات فما أرادوا سوى أن تتمتع عيونهم بما وراء الحجاب من حسن وجمال، وتتجاوز أهواؤهم حدود الفضيلة ليتقاسموا بينهم لذائذ الفاتنات ومحاسن الجميلات.

 أيتها الفتاة احذري.. إن ضياع المرأة هو ضياع الرجل وإن صلاحها هو صلاح الأمة بأسرها، وإذ يبين مقالي هذا شيئاً من الضرر الذي أصاب حياء المرأة وشخصيتها، ولوَّث فكرها وإنسانيتها، أدعو دعاة الفكر النسوي أن يبينوا شيئًا من منافع فكرهم العظيم، وطلبات التراخيص التي ينادون بها وقد أثقلت ظهورهم، حالهم كحال ذلك المعتل الذي يتوكأ على مثله، حتى إذا وجدنا نفعها أكثر أخذنا بها ولو تكلفنا معها شيئاً من الضرر.

ولا أزيد قولاً على ذلك لأنَّ القاعدة تقول إذا تعارضت مفسدةٌ ومصلحة يقدم رفع المفسدة على جلب المصلحة، والقرآن إذ يقرر بين صفحاته الطاهرة، أن الخمر والميسر فيهما إثم كبير ومنافع للناس يقرر في الوقت ذاته أن إثمهما أكبر من نفعهما لذلك حرما، فبأي حديث بعد القرآن وآياته تعقلون!!

أيتها الفتاة احذري ثم زيدي وبالغي في الحذر.

تعليق عبر الفيس بوك