لقاح "كوفيد-19" والعلم الحضوري

 

فاطمة البودريس

تشتغل دول العالم بتحقيق النسبة المطلوبة من التلقيح ضد كوفيد 19 بنحو 20-70% من سكانها؛ للوصول إلى مناعة مجتمعية تستعيد حياتنا بعد تخفيها وراء حذر غير معروف النتائج جرَّاء هذا الوباء.

من أشكال هذا الاشتغال: التوزيع العادل لجرعات اللقاح بلا تمييز بين دول غنية مُنتِجة للقاح أو فقيرة تحتاج استيراده، ممَّا أدَّى بمنظمة الصحة العالمية وتحالف اللقاحات(GAVI) ومركز الاستعدادات للأوبئة (CEPI) إلى إطلاق مبادرة كوفاكس لكي تكفل هذا التوزيع وتوفير اللقاحات إلى كل دول العالم بأسعار معقولة، وذلك بتطعيم 20% من سكان الدول المستحقة.

غانا أول دولة تصل إليها اللقاحات من خلال هذه المبادرة. كما ساهمت المملكة العربية السعودية من بين 64 دولة مُنضَمَّة لتفعيل برنامج كوفاكس العالمي، ولدى كوفاكس خطة إيصال نحو ملياري جرعة من اللقاحات بحلول نهاية العام الجاري.

في الحقيقة أشعر بمسؤولية كبيرة لتحليل هذا الحدث بطريقة مختلفة تجعلنا نقترب من القلب والوجدان كأداتين تتعرضان إلى الإشكاليات في المعارف البشرية من حيث الاعتماد على نتائجهما وهل أنَّهما تتفوقان على العقل أم لا؟ أتأمَّلُ أحوالنا عندما نُدرِك شيئاً ما فنحن أمام طريقين واضحين: الأول: إدراك الشيء ظاهرياً من خلال الحواس الخمس. والثاني: إدراك الشيء باطنياً من خلال الخيال والحافظة والتفكر والذاكرة.

وفي كل من هذين الطريقين نترَّقب الصواب التَّام الذي لا يقبل الخطأ، بل نزعم ذلك عندما نصل إلى نهاية الطريق.

فهل صحيحٌ أن نُفكِّر بهذه الطريقة؟ وهل من الممكن أن يحصل هذا بحسب إمكانياتنا البشرية؟

سنرى بعد هذه المقدمة..

حينما نقرأ في الفلسفة تقسيم العلم إلى علم حصولي وعلم حضوري، نلحظُ أنَّ الحصولي: هو إدراك صورة المعلوم في الذهن، أمَّا الحضوري: فهو إدراك نفس المعلوم في الذهن. والفرق بين القسمين هو "نسبة وكيفية حضور المعلوم في أذهاننا"؛ حيث إنَّ حضور صورة المعلوم تتعرض دائماً إلى الصواب أو الخطأ؛لأنها مجرد مفاهيم ذهنية ربما تنطبق على الواقع الخارجي أو لا تنطبق، لكنَّ حضور نفس المعلوم له صوابية و ثقة من نوع آخر؛ لأنَّ المعلوم يكون على هيئة شعور داخلي له دليل عقلي منبثق وحاضر في النفس كشعورنا بوجودنا وبنجاحنا وفرحنا وحزننا، فينتج من هذا عدم إمكانية الوقوع في الخطأ البتّة، وهذا أمر صادم في الوهلة الأولى، إلاَّ أنَّه أثبت صحته ويقينه في علم الفلسفة، ويعد خطوة رائدة ومصيرية لحلِّ مشاكل المعرفة.

لنُعطي مثالاً حتى تتضح الفكرة.. عندما تنافست المنظمات والهيئات العلمية لإيجاد لقاح آمن ضد كوفيد19 وبذلت أقصى ما في وُسعِها لذلك، حتى إنَّ ذلك دفع برئيس أكبر شركة مُنتِجة للقاحات في العالم "شركة معهد الأمصال الهندي" (بوناوالا) لكي يراهن بملايين الدولارات من "ماله الخاص" على لقاحات لم يكن يعلم بمدى نجاحها حتى أنَّ عائلته أطلقت عليه صفة الإنسان الذي فقد عقله. كذلك عندما شهدنا الإشراقة الفذّة بعد موافقة منظمة الصحة العالمية على تقنية جديدة تُسمى بـ(Mrna)، فهي تقنية لا سابق لها في صنع اللقاحات على مر التاريخ، أخرجتها شركتي فايزر وموديرنا الأمريكيتين.

المُبتَكر في هذه التقنية أنّها عبارة عن الحمض النووي الريبوزي لفيروس كوفيد-19، وليس الفيروس مُضَعَّفاً أو مُعطَّلاً، كما في الأسلوب التقليدي لمنتجات اللقاح في العقود التاريخية السالفة كلقاح الحصبة وشلل الأطفال والنكاف. إضافة إلى أنَّ هذه التقنية لا تُنتِج الأجسام المُضادة فحسب "Anti-bodies" إنَّما تُنتِج الخلايا التائية في الجهاز المناعي (cp8) التي تقضي على مرض السرطان. وبالطريقة المُماثِلة ظهرت تقنية (DNA) للقاح كوفيد-19 من جهة شركة كاديلا الهندية بموافقة هيئة تنظيم الأدوية الهندية.

لكنَّنِي بعد تأمل رأيتُ أنَّ بوناوالا وعلماء تقنيتي (Mrna) و(DNA) كانوا يبحثون عن كمال من مصدر آخر و منطق أسمى من المنطق العقلي، ألا وهو "منطق المشاعر الإنسانية" التي تُسهِّل التفكير والتنظيم للانفعالات، وهو تحت عنوان "الذكاء الوجداني" الصادر عن المنطق الوجداني القلبي الذي يرى المعطيات العقلية مجرد تهيئة لانكشاف وتجلِّي هذا المنطق؛ فالحواس الظاهرية الخمس وكذلك الحواس العصبية والدماغ بعدما تتلقَّى المعلومات من الخارج، فإنِّها تنفعل تجاهها بعواطف وإحساسات باطنية نُطلِق على هذه العواطف والإحساسات "العلم الحضوري" الذي تم تعريفه في بادئ المقال: وهو "إدراك نفس المعلوم في الذهن".

فعندما نحكم بأنَّ اجتماع النقيضين مُحال فهذا "قانون عقلي"، لكنَّنا نشعر به في أنفسنا بل في وجداننا.

على سبيل المثال حينما نمر بلحظات الفرح لا يمكننا القول أنَّنا نشعر بالفرح و الحزن معاً، لابد من شعور واحد فقط؛ لأنَّ النقيضين لا يمكن أن يجتمعا.

ما قصدته من المشاعر الإنسانية التي تخص "بوناوالا والعلماء أعلاه"، هو القدرة على إدراك صفة التراكمية للتجارب العلمية فيما يخص اللقاحات عبر الزمن، و ذلك عبر "الانفعال القلبي بقانون التراكمية"، وهو أنَّ لكل مسألة علمية طابع مُطلَق، و طابع نسبي بدون تناقض؛ فالمُطلَق هو أن المسألة تفرض نفسها على كل العقول البشرية، وأمَّا النسبي فهو انطباق المسألة على الظاهرة المقصودة. ومن ثم يتبع ذلك تعبير عن الانفعال بعمل دؤوب مستمر من الإنسان، كما يتولد عنه انفعالات مساندة لاستخدامها كعامل مساعد في "التفكير وتعزيز النمو الوجداني والعقلي لدى الذات والآخر". (استناداً إلى نموذج القدرة كأحد النماذج النظرية المُفسِّرة للذكاء الوجداني من جهة عالِمَي النفس "ماير وسالوفي").

إذن الانفعال ليس مجرد إحساس؛ بل تفاعل مع براهين وأدلة منطقية مُناسِبة لعمل القلب؛ و لهذا رأيتُ إرجاع هذا النوع من الانفعال إلى "العلم الحضوري" وهي فكرة كانت تراودُني منذ التخطيط لكتابة هذا المقال، وبالفعل رأيتُ ما يُسدِّدُني نحو ذلك، من خلال التأسيس الواضح في علم الفلسفة الإسلامي بشأن العلوم الوجدانية،فضلاً عن العلوم الحصولية  "الطبيعية و الإنسانية "التي يجب إرجاعها إلى العلم الحضوري، وهي كما يلي خِتامًا:

  1. العلم بالنفس مُقَدَّم على جميع العلوم الحصولية ومُقَوِّم لها.
  2. جميع العلوم الحصولية هي علوم حضورية.
  3. جميع العلوم الحسية مُنتَزعة من الإحساس والإنفعال الباطني.
  4. جميع المفاهيم المنطقية مُنتَزعة من المفاهيم الموجودة في الذهن.
  5. البديهيات الأولية ترجع إلى العلوم الحضورية.
  6. الوجدانيات وهي القضايا التي تخبر عن الحالات الباطنية مأخوذة من العلوم الحضورية.
  7. المفاهيم والتصورات مصاديق للعلوم الحضورية.

تعليق عبر الفيس بوك