حالة خاصة!

 

فاطمة اليمانية

خيالك في وهمي، وذكرك في فمي

ومثواك في قلبي؛ فأين تغيب؟

"الإشبيلي".

****

اتّجه إلى منصّة المحاضر، وأخذ يتحدث بإسهاب عن المناهج التربوية، وتطوير التعليم، بينما انحصرت مهمّتي في:

- تأمّله!

لا شيء بيننا غير شعوري نحوه بالألفة!

من الوهلة الأولى كنت أتساءل؟ وكنت أتخيل أنه ـ أيضا مثلي ـ يتساءل:

- أين شاهدت هذا الوجه؟!

- متى التقيت به؟! وأي صدفة جمعتنا؟!

ومن الوهلة الأولى التي سمعت فيها صوته.. شعرت بأنه يخاطبني!

يخاطبني أنا ـ بالذات ـ من بين جميع الحضور!

يقصدني أنا بالتحديد! أنا ببساطتي.. وتواضعي.. وخجلي!

وكنت " أبتسم " كلما " تبسّم "!

و" أتجهم " كلما " تجهم "؟!

أعقد حواجبي! أزمّ شفتي! وأشير بإصبعي إلى المتحدث.. كما يشير هو بلمحة ذكية.. انتبه!

تبنيت أفكاره.. شعاراته.. واعتنقت مبادئه!

أنا التي تنفر من "التقليد" و "التبعية ".. أصبحت أقلده! وأتبعه كظله!

أرى "أردوغان" بطلا! -

 وأعتبر " مرسي " حاكما شرعيا! -

أسمع أغاني " عبد الوهاب " ولم أكن أسمع له من قبل؟!

وغنيتُ بصوتي الشجيّ ـ كما ظننتُ ـ مقلدة مدّ وشدّ عبد الوهاب عندما يقول، وبأعلى صوت بثته سماعات الحاسوب:

علّمــــــــوه كيف يجفـــــــو فجفــــــــا   ***    ظــــــــــــــالم.. لاقيت منه ما كفـــــــــــى

وكانت صديقتي " ليلى " تستغيث:

كفى يا عبير.. كفـــــــــــــــــــــــى!

لكننّي لم أصمت، ولم أكف إلا بعد انتهاء الأغنية!

لأفتح مواقع الشعر والغزل، وأحفظ ما راق لي، وما لامس شغاف قلبي، وأنسخه في هاتفي وفي ذاكرتي، وعلى لساني مرددة في نومي وصحوي:

داريت ُ أهلك في هواك وهم عِدا *** ولأجل عينٍ ألف عينٍ تكرم!

ولأجل عينيه فقط.. مددت شفتي إلى أقصى مدى قد تصل إليه عندما رفضت " ليلى " الذهاب معي لتسليم " البحث ".. وهي تقول لي:

ـ د. أحمد بالذات.. لا أطيقه!

ـ اغربي عن وجهي.. سأذهب لوحدي!

فعلا ذهبت وحدي.. حاملة بحثي، وكتاب " باولو كويلو "الرابح يبقى وحيدا" لأخبره بأنني أيضا مثقفة، قارئة، مطلعة، على الأدب الغربي!

اقتربت من مكتبه.. فتحت الباب بهدوء.. كنت أرغب بسرقة مشهد من المشاهد التي يحيى فيها.. كنت أريد التقاط صورة خاطفة لتستقر في قلبي!

كان منظما جدا.. كل شيء في مكانه.. في مكانه بالضبط.. حتى الورقة استقرت على طاولته بثبات.. رغم فتح النافذة!

ـ تحسست قلبي.. بدأ يزداد نبضه.. لكنّه كان خلفي.. وتنحنح منبها! وأفسد عليّ لحظة التأمل! فشعرت بالدماء تجمدت في عروقي!

سألني بذوق:

ـ كيف أساعدك آنسة؟!

لكنني تمالكت نفسي وقلت له بصوت مرتفع جعله يتراجع للخلف:

ـ د. أحمد...هذا بحثي.. تفضل!

تناول البحث، وقرأ العنوان، وكان يوشك أن يعلق على العنوان، لكنّني لم أنتظر السماع لتعليقه؛ بل مضيت في طريقي.. ووصلني صوت من أعماقه يقول خلفي:

ـ مجنونة!

تابعت دربي كأنّني في السلك العسكري غير ملتفته لأيّ اتجاه؛ خشية أن يكون ينظر إليّ! فأنا هاربة الآن لا أسمع شيئا.. ولا أنتظر سماع شيء!

قطعت شوطا أثناء مشيتي العسكرية غارقة في التفكير في ردة فعله عندما تكلمت.. وهل كان صوتي مرتفعا بطريقة مبالغة! إلى أن اعترضت "ليلى" طريقي.. وقطعت حبل أفكاري.. لكنّي أشحت وجهي عنها:

ـ انتظري! أعتذر.. أعتذر!

ـ لا تعتذري؟! أنتِ دائما تتهربين من الذهاب معي!

وفعلا تحدثت طويلا.. كأي فتاة ثرثارة؛ ولم أكف إلا بعد أن وضعت يدها على فمي لتسكتني!

ـ عبير.. سأرافقك في المرة المقبلة..

شكرتها.. وأظهرت فرحا غامرا.. وفي داخلي تمنيت ألا ترافقني! فسعير الغيرة تسلّل إليّ.. وشعرت أنها تهدد وجودي؟!

ولا أنكر أنّني ليلتها لم أنم!

لماذا " ليلى " بالذات تثير غيرتي؟! وهو يشاهد مئات الطالبات في اليوم الواحد؟! ويتحاور معهن كأي أستاذ جامعي؟!

لماذا " ليلى " بالذات؟!-

وسخرت من نفسي "وكأنّني فعلا حبيبته"؟! وهو لا يعرف شيئا عنّي غير أنّي إحدى طالبات " كلية التربية " غريبات الأطوار!

" تظل صامته طوال المحاضرة.. ثم تتحدث في النهاية " تعطي ملخصا لأهم قناعاته.. وكأنها تقول: جميع ما يقول مقدس، غير قابل للنقد ولا للنقض! "

وكان شاكرا لها في قرارة نفسه تكفّلها بهذا الدور! حتى بإيمانها بالأفكار التي يكررها يوميا على مسامع الطلبة رغم عدم اقتناعه بها!

استسلمتُ أخيرا للنوم.. واستيقظت بمزاج سيء..

 تمنيت لو تتغيب " ليلى" عن المحاضرة!

غمرت رأسي بالماء علّي أفيق من هلوسات المراهقات!

تهيأت للذهاب إلى المحاضرة.. ناسية جهاز الحاسوب! وكوب القهوة الصباحي المعتاد! خاصة بعد أن أرسلت " ليلى " رسالة نصية تطلب مني الذهاب إليها:

"عزيزتي.. سأذهب إلى الجامعة برفقتك.. سيارتي معطلة "؟!

ـ رددت عليها بعد فترة، كمن دخلت في غيبوبة:

ـ حسنا.. ليلى.. سآتي بعد ربع ساعة!

ركبت سيارتي.. وبدأت أقود على مهل غير مبالية بالاعتبارات القديمة:

" الزحمة.. تعطل الحركة.. الخوف من التأخير عن المحاضرة "!

وصلت أمام منزل ليلى وأرسلت لها:

- اخرجي.

 خرجت مسرعة. وصعدت السيارة بصوتها المرح المعتاد:

ـ صباح الورد عبير.. كيف حالك عزيزتي؟!

أجبتها ببرود:

ـ بخير..

ثم تأففتُ من رائحة عطرها:

ـ أوف.. ما هذه الرائحة ليلى؟

تفاجأت:

ـ عطرنا المفضل يا عبير ...!!

ـ وضعتِ الكثير منه؟! ألا تعرفين أنّ خروج المرأة من المنزل متعطرة حرام في الإسلام؟!

ضحكت معتقدة أنّها أحد تعليقاتي الساخرة المعتادة.. ثم قالت:

ـ فعلا.. والإسلام الذي حرم العطر، أباح لك وضع مساحيق التجميل؟!

اضطررت للضحك معها! قصفت جبهتي بحرفية عالية؟!

قطعت الطريق ببطء شديد.. وكنت شاردة أفكر!

سألتني:

ـ بم تفكرين؟!

ـ لماذا لا تتزوجين ابن عمك يا ليلى؟!

لم تتمالك نفسها، ضحكت بصوت مرتفع:

ـ ماذا؟ أتزوج ابن عمي؟!

ـ نعم! ما المانع؟!

ـ التفكير في الزواج، سيأتي لاحقا بعد التخرج من الجامعة!

ثم إنّ ابن عمي متزوج! وفارق العمر بيننا عشرة أعوام! لكن:

ـ لماذا لا تتزوجين أنتِ يا عبير؟!

ـ عمي ـ رحمه الله ـ مات صغيرا في العمر ولم ينجب!

ـ ضحكت.. وعدت للتفكير بتزويج ليلى؟!

فلو كانت متزوجة فلن تفكر في د. أحمد.. ولن تلفت انتباهه!!

 كنت أقود السيارة ببطء شديد أزعجها.. نظرت إليّ، وقالت بعد صمت:

ـ حماري قال لي؟!

ـ توفيق الحكيم؟!

ـ الطريف في الأمر أنّ الحكيم انطلق من فكره الفلسفي لنقد المجتمع باختلاف توجهاته! في تطوره.. وسياسته.. حتى في بطء.. في بطء حركته!

ـ وصلت رسالتك " ليلى " ...!

ضغطتُ على البنزين.. وأسرعت فعلا.. واقتربنا من الجامعة.. وبعد لحظات قليلة دخلنا من البوابة الرئيسية..

وقبل النزول من السيارة فتحت ليلى المرآة الأمامية لتهذب حجابها؛ فشعرت بالغيرة؟! لأنّها الآن تتهندم حتّى تجذب انتباه " د. أحمد "!!

قلت لها بوقاحة:

ـ انزلي بسرعة.. لمن تتهندمين؟!

تغير لونها.. لم تعتد على هذا الأسلوب الهمجي مني؟! فشعرَت بالإحراج..

أغَلقت المرآة بسرعة، ثم نزَلت من السيارة، ويبدو أنّها تعوذت من الشيطان الرجيم ومنّي!

ولأول مرة منذ دخلنا الجامعة، كنت أمشي أمامها، وكانت تمشي خلفي كطالبة صغيرة مذنبة؟!!

خافت أن تمشي بمحاذاتي؛ فتسمع منّي كلمة تنغصها؟!

خافت أن تتقدمني؛ فأرميها بسهم من كلماتي الجارحة، وأوجعها!!

أبطأت في خطواتي.. والتفتُ للخلف.. كانت تمشي بهدوء.. وأناقة.. وبدت كأنها أميرة من أميرات " ألف ليلة وليلة "!

بينما بدوت كـ "عشماوي "! يريد اقتناص الفرصة لحزّ رأسها!

اقتربت منّي ليلى ودخلنا القاعة معا..

كان د. عمّار رئيس القسم في القاعة!

أجلت النظر باحثة عن د. أحمد.. لا أراه!!

ألقى د. عمّار التحية ثم سأل:

ـ هل اكتمل الحضور؟!

ـ نعم دكتور!

ـ الأستاذ أحمد انتقل إلى ...

لم يكمل كلامه.. حتى صرخت!

ـ مات؟!

ـ ضحك زملائي وزميلاتي في القاعة على تخميني السيء، واستعجالي، وخوفي!

فشعرت بإحراج كبير!

قال د. عمّار متداركا:

ـ لا يا ابنتي.. انتقل إلى جامعة أخرى، ونتمنى له التوفيق!

تنفست الصعداء.. الحمدلله لأنّه على قيد الحياة.. ولم أُعِرْ تعليقات الزملاء أيّ اعتبار!

وشعرت بارتياح ليس لأنّه على قيد الحياة فقط! ... بل لأنّه رحل قبل أن يقع في غرام ليلى وأسقط صريعة الغيرة!

ولم تظهر ليلى أي ردة فعل! فهو لا يعني لها شيئا!

هو الآن يأتي كقطرة ندى في الذاكرة! -

ولم أعد أعتبر "أردوغان بطلا".. ولا "مرسي" حاكما شرعيا.. ولم أعد أسمع أغاني "عبد الوهاب"!

(النهاية)

تعليق عبر الفيس بوك