بعض التعافي محال

 

منال السيد حسن

يتعافى المرءُ بالخيبات التي ما زالت تعبره ويتجاوزها وحده .. يتعافى بمرات الخذلان التي تستوطنه ولا زالت لا تمله وطنا .. يتعافى بتألمه وتأمله .. بسقطاته التي نهض منها بمفرده .. بالمرات والمرات التي ظنه الجميع نائمًا هادئاً .. ولكنه كان يصارع وحده جيشاً من الذكريات على حدود وسادته .. يتعافى بالأوقات التي استيقظ فيها صباحًا مع نفسه وحيدا؛ ليخرج بمنتهى -العجز والهزيمة- مبتسما لهم فيظنونه أسعد أهل الأرض .. يتعافى بالرعشات والتشنجات التي تصيب خلاياه كلها في لحظة حنين؛ ولا رادع لها سوى قوله يا الله .. يتعافى بمعاركه الخاصة مع نفسه وروحه وقلبه .. معاركه الخاصة مع الحياة .. والتي كان ينهزم فيها دائمًا .. ويكون عزاؤه الوحيد ثباته الهش من الداخل.

يتعافى المرء بأنه وحده يقاوم وحده .. بعيدا عن زيف من حوله وعن مجاملاتهم الساخرة .. بعيداً عن عبثهم وفوضاهم.

لكل منِّا معاركه التي يتعافى منها ربما بمفرده وربما بمعية آخرين وإن نظرنا نجد أننا دائماً ننهض منها وحدنا.. وحدنا نقاوم .. ووحدها حُمى الألم في الغياب لا معافاة منها!! أبدا لا معافاة!

طوال سنوات عمري الماضية انتظرت شخصًا واحدًا يمتلك موضع أماني وثقتي الوحيدين .. ووحده من ملك ذلك!!

هل كان ينبغي عليَّ أن أدرك حقيقة أن أقسى أنواع الغدر تأتيك من حيث الأمان الكامل؟!!

شعورٌ مرير!!

لا زلت أحتفظ بنظرته الأولى في عيني كسهم حب أصاب القلب في حيرةٍ وغيرة .. وأشعر بيده وهو يمدها لي للمرة الأولى كمأوى وسكن وجنة حبٍ خالدة .. وأتساءل بيني وبين المسافات اللعينة التي تفصلني عنه بمحض إرادته الصفيقة؛ كيف يُصبحُ سهم الحب خنجرًا مسمومًا يبث سمه في كامل الجسد ليعذب لا ليقتل؟! وكيف تصير جنة الحب سعيرا يحرق ولا يميت؟! وكيف يفتك بنا شعور التجاوز دون أن نتجاوز؟!  وكيف نفقد صوابنا خجلًا دون رصاصة رحمة واحدة تريحنا؟!! .. وكل اللذين حولنا جدران مشروخة يسمحون بتدفق محيطات الألم لقلوبنا البريئة دون شفقة!!!

أجلس على مرمى حدوده .. قبالتي الطريق التي لا أعرف هل هي تمر بي أم أنا أمر بها .. أنظر في وجوه المارة؛ ولا أُبصر غير عينيه التي كانت تحمل حس الشعور ومصطفاه وابتسامته التي كانت تختزل كل لطف العالمين .. يترامى الموج في روحي ويتبعثر يناشد حسه الجريء .. جميعهم يتهافتون على الحديث وأنا أتهافت عليه وحده .. السماء حولي تائهة والنجوم لا تدري أين تتفرش مكانها .. والقمر الذي عانقنا في بدره يختبئ حزيناً .. كأنني وحدي أراه فيبتسم لي حين أغمس بين يديه قبلة وأتوسله ليوصلها إليه!

 

أحبه!! والطريق إليه تآكله "دُودُ" الغيابِ.

فض بكارة الأفراح في قلبي وشق شرانق الأحلام .. الروح عطشى للقا .. والقلب يشهق البوار .. مخاض حبه الأخضر .. نواميس الكون العاصفة .. زلزلة المجرات واختباء نجوم الأمل في الممرات الفاصلة!! أوشوش بيني وبين نفسي بحسرةٍ وكسرة؛ أيأتي فتقوم أشهادُ القلب تسبح بحبه؟ أيأتي وينفخ في صور روحي فيتحقق البعث المنتظر؟!!

لم تكن نصيحة السيدة (هاء) مجدية؛ تطلب الأمر عينه عدة محاولات فاشلة كانت نتيجتها الاستسلام التام بطرق متعددة وأشكال مختلفة للألم ذاته .. الأمرُ ساديٌ جدا .. وجميعهم يبرقون ويلمعون حين يروا انهزامي .. و"لقد تجاوزت" كل ما تمنيت أن أقول!!

"عزيزي؛ ما يؤلم في الغياب ليس الغياب في حد ذاته؛ بل في تلك التفاصيل الصغيرة التي لم نتشاركها معا !! وكان حلمي أن أشاركها معك وحدك!! .. في الوقت الذي ظننت أنك ستدوم كان ما بيننا يلفظ أنفاسه الأخيرة وأنا مغيبة بالكامل .. كنت تتسرب من بين يدي وكنت أحاول التمسك والتشبث بك .. كنت أمنحك كل ما لم تمنحني إياه .. أحببت كل شيء تحبه فقط لأنك تحبه .. وانتظرت كثيرا خلف الباب أنظر إلى مقبضه علك تضغطه مجددا .. ولا تأتي .. كنت أختبئ خلفك؛ أفضي بغروبي إليك .. أشرح عجزي دون خوف وأنا أعلم أنك الوحيد القادر على احتواءه .. وها أنت تترك صدري عاريا .. عاجزا عن حماية نفسه .. خائفا أن يشرح ذاته .. والكون كله كله لا يساوي شعور أن أضع خدي في باطن كفك الأيسر وألقي بهمومي الثقيلة وأغفو دون ملل منك أو كلل!! .. أقرفص في أسى وأبكي كثيرا محاولة التعافي .. وكل التعافي أنت!!

ورغم هذا كله .. لم أعد أرغب أن تعود!

تعليق عبر الفيس بوك