وطن.. وطن.. وطن

 

فاطمة اليمانية

 

 

"ما هو الوطن؟ ليس سؤالا تجيب عنه وتمضي، إنّه حياتك وقضيتك معا" محمود درويش.

*****

دخلت المدرسة وهي تحمل كيسا مليئا بالأعلام والأوشحة والشعارات، ثم جلست لالتقاط أنفاسها بعد جهد جهيد في البحث عن المزيد من الأوشحة التي نفدت من أكثر من محل تجاري..

وبعد مدة قصيرة أحضر العامل صندوقا كبيرا مليئا بأكياس الزينة والأوشحة؛ فناولته مفتاح السيارة؛ لينزل صندوقا آخر، وأكدت عليه بأن يغلقها ويتأكد من إغلاقها.. فعاد بعد دقيقتين حاملا الصندوق الثاني، ووضعه قرب الأول، أخرجت المحفظة.. وناولت العامل إكرامية له!

  • شكرا..
  • خذ أيضا هذا الوشاح!

فوضعه على كتفه مرددا النشيد الوطني بلكنة طريفة؛ ولمحت عاملا آخر من بعيد؛ فناولته وشاحا ثانٍ:

  • خذ هذا لصديقك..
  • لدي صديقان..

فناولته آخر، ثم أخرجت ثلاثة شعارات، وثلاثة قمصان.. وكيس بالونات ملونة باللون الأبيض، والأخضر، والأحمر؛ لأنّه قال لها إنّه يزين غرفته سنويًا بالبالونات احتفاءً بالمناسبة..

 وتابع طريقه مترنما:

  • وطن.. وطن.. وطن..

ثم تابعت فرز المشتريات؛ لتسهل عليها مهمة التوزيع على الطالبات المشاركات في الحفل..

فاقتربت منها إحدى الزميلات، وقالت بعد تسديد نظرة عميقة إلى الصندوق:

  • للبيع؟!
  • للطالبات المشاركات في الحفل.
  • مجانا!

نظرت لها:

  • نعم!
  • على حساب من؟ المدرسة؟!
  • .............

جلست قربها، وقالت بلهجة خبيرة في البيع:

  • لو كنت مكانكِ لبعت الأوشحة والأعلام والشعارات والقمصان للطالبات، ورفعت السعر عن قيمة الشراء.. ثم تناولت وشاحا، وقالت:
  • هذا الوشاح يُباع في بعض المحلّات بريال، وقيمته الأصلية نصف ريال، وعرضه محل التخفيضات بثلاثمائة بيسة، وباعته إحدى الإداريات للمعلمات بريالين! وكل معلمة رفضت شراء الوشاح حدجتها بنظرة ازدراء كتلك الموجهة للخونة!

فقالت ساخرة:

  • لماذا لا نرفع السعر إلى خمسة ريالات، ونوفر مبلغ البنزين مثلا، أو تذكرة سفر، أو قطعة أرض!

فبدت النكتة سمجة؛ فقالت وهي تشير إلى رأسها:

  • للتجارة أهلها!

ثم غادرت المكان، هي ورأسها ودماغها التجاريّ الباحث عن ربح في كل مناسبة، لتبيع مصاحف الصدقات في رمضان، وعبارات الشكر للمُعلمات في عيد المعلم، وصور الأمهات وهنّ يحضن أطفالهن في عيد الأم، مع التأكيد على أن كلمة "عيد" جريمة، يجب استبدالها بكلمة "يوم" وعلى أنّ الصور مُحرمة، عدا إذا كانت تخطيطا بلا ملامح!

 عادت إلى واقعها لتفكر بطريقة سهلة في نقل الصناديق إلى القاعة؛ فلا بدّ من مساعدة؛ ولم يدم تفكيرها طويلا حتّى دقّ جرس الفسحة؛ فطوقت الطالبات المكان، وحصرن المعلمة والأكياس والصندوقين في دائرة ضيقة.. وأخذت تفكر بطريقة تبعد فيها الطالبات المحتشدات المحدّقات في الأكياس والصناديق بلطف ورفق، فأخرجت ريم رأسها من بين حشد الطالبات مبتسمة، وسألت:

  • للتوزيع أستاذة؟
  • لطالبات الحفل..
  • أود المشاركة..

نظرت إليها؛ لأنّها كانت تعرف جيدا هذه الطالبة؛ فلا صوت جهوري يصلح للإلقاء، ولا جرأة على التمثيل، ولم يسبق لها أن شاركت في حفل أو برنامج إذاعي أو قرأت بطريقة جيدة في الحصّة..

فسألتها بعد أن رأت البهجة في عينيها المبتسمتين:

  • ريم! هل تودين المشاركة؟

فابتسمت ببراءة وغطّت نصف وجهها بشالها.. وقالت بصوت أقرب للهمس:

  • نعم..
  • حسنا.. ستشاركين بإذن الله تعالى..
  • شكرا أستاذة..

وانطلقت الأصوات من أكثر من طالبة يرغبن جميعهن في المشاركة؛ فقالت لهن:

  • ساعدنني على حمل الأغراض للقاعة.. وسأحصر الأسماء.. وستشاركن في رفع الأعلام!

وبالفعل حصرت أسماء الطالبات اللواتي زدن على ثلاثين طالبة! فقالت لها إحدى الزميلات:

  • ما الفقرة التي ستحتوي على 30 طالبة؟!
  • لا تعقدي الأمور، ستحمل كل طالبة علما وتسير على جانبي القاعة إلى أن يصعدن على المسرح! فقرة بسيطة وتضمن لهن المشاركة!
  • وهل ستوافق الأستاذة "هاجر" على إضافة فقرة جديدة؟
  • توافق.. ترفض.. هذا شأنها!

مرّت نصف ساعة، وفتحت الأستاذة هاجر باب القاعة؛ باحثة عن المعلمة لمتابعة ترتيب فقرات الحفل؛ فلفت انتباهها إضافة فقرة جديدة، وسألت عن طبيعة الفقرة، والطالبات المشاركات في الحفل:

  • طالبات الصف السابع.

خبطت على الأوراق بأصابعها، وقالت بلهجة آمرة:

  • احذفيها!
  • حسنا..

وخرجت وهي تنفث غضبا واحتقانا؛ لأنّ المعلمة لم تجادلها، ولم تعطها فرصة لإفراغ ما في جوفها من شتائم روتينية تقصف بها الجميع قبيل الحفل! أي حفل! وأي فعالية، فلا بدّ من إدراج اسم ابنتها في أول القائمة، وابنة صديقتها، وبنات المعلمات المقربات منها وبنات علية القوم، والمتبرعين لمشاريع المدرسة ومرافقها، بينما يتم إقصاء الطالبات الأخريات! ومن ضمنهن بنات المعلمات اللواتي لا تحبّهن، واللواتي لا يرقن لها، ولا يتبنين أفكارها، ولا يرددن أشعارها!

لأنّها حلمت كما سمعنا "بالمتنبي" يلقّنها شعرا، فأصبحت شاعرة!

ومنها لم تتبق زاوية في المدرسة لم تعلق فيها لوحة خشبية مكتوب عليها شعرها، ولم تترك مناسبة لم تشارك فيها بقصائدها! ووصل الهوس بنفسها وشعرها إلى طبع قصاصات صغيرة لبعض الأبيات التي تعتقد بأنّها ذروة الإبداع في الشعر ولصقها على قناني الماء، وقطع الحلويات، وعلب الهدايا!

في السابق كان الجدال والصراع يبلغ ذروته بين المعلمة والأستاذة هاجر؛ فالمديرة تفرض وجودها لخبرتها في تنظيم الاحتفالات المدرسية، والأستاذة هاجر تحاول جاهدة إقصاءها؛ لأنّها أبدت رأيها في قصائدها، عندما أحضرت لها قصيدة لإدراجها في إحدى الحفلات ولم يكتب اسم المؤلف؛ فاعترضت على القصيدة، وقالت:

  • أولا، هذا نثر، خاطرة، ولا تندرج تحت بند الشعر؛ فكيف تكون القصيدة الأولى في الحفل؟!
  • قصيدة وليست خاطرة!
  • يجب تغييرها!
  • إنّها لي!

فأدركت المعلمة أنّها ستعاني الأمرّين معها! وأدركت الأستاذة هاجر أنّها ستضطر لمواجهة معلمة لا تعترف بموهبتها في الشعر! ولا تمتلك طبيعتها المتعالية في تهميش المستضعفات! وفي تحطيم النفوس! وفي قتل الفرح الفطري في القلوب!

انتهى اليوم الدراسي؛ لتصل المعلمة إلى المنزل؛ فتستقبلها رسالة من الأستاذة هاجر حدّدت فيها فقرات الحفل، وكتبت فيها:

  • هذه فقرات الحفل!
  • بإذن الله تعالى.

وكالعادة وضعت قصيدتها بعد القرآن الكريم، وستؤدي ابنتها وابنة صديقتها الإلقاء؛ لتضفي على القصيدة فخامة! وسترتدي ابنتها لباسا عمانيا تقليديا فخما، بينما ستكتفي الطالبات بلبس الوشاح فقط مع الالتزام بالزي المدرسي.. وأي طالبة مخالفة ستتعرض للمساءلة القانونية!

في يوم الحفل! كان الاستعداد على قدم وساق.. واتّجهت كل طالبة إلى موقعها.. بينما اتّفقت المعلمة مع الطالبات اللواتي سيحملن الأعلام على الجلوس نهاية القاعة بطريقة منظمة، وطلبت منهن الخروج وهن يحملن الأعلام الصغيرة ويلوحن بها عند سماع الأغنية الوطنية قبل ختام الحفل، وتنفست الإدارية الصعداء عندما لم تلمح أي طالبة جديدة على المسرح..

ومرّت فعاليات الحفل كما تمّ التخطيط لها، حيث بعثت قصيدتها الطويلة أو خاطرتها المملة السأم في قلوب الحضور، ويبدو أنّ ضيفة الشرف غلبها النعاس، فارتخت جفونها وكتمت رغبة قوية في التثاؤب..

وجلست المديرة على يمين الضيفة، والأستاذة هاجر على يسارها؛ وهي تقول لها:

  • هذه قصيدتي.. هذه ابنتي.. هذه ابنة فلان! تعرفينه؟! قريبكم!

وكانت الضيفة تردد كدمية أصابها العطب:

  • جميل.. جميل.. جميل!

وفي ختام الحفل، وعلى أغنية وطنية رائعة سارت الطالبات في خطّين متوازيين وهنّ يلوحن بالأعلام، بطريقة منظمة، تتقدمهن ريم بابتسامتها الملائكية، وصعدن على المسرح مبتهجات بمشاركتهن، وهن يرددن، وتردد معهن طالبات المدرسة والضيفة والمعلمات بصوت واحد:

  • وطن.. وطن.. وطن          في القلب قد سكن
  • نفديك يا عماننـــــــا          بالروح والبـــــدن

 

(النهاية)

تعليق عبر الفيس بوك