مِصر يا أُم الدنيا

سالم بن نجيم البادي

يسألونني إن كانت أُمي مِصرية بعد أن لاحظوا شغفي باللهجة المصرية وإتقاني لها وعشقي لمصر، وأُجيب أمي عُمانية وأبي وسائر جدودي كذلك، لكن مصر هي أم الدنيا كلها لا أحد يستطيع أن يلوم المرء إذا أحبَّ مصر وهام في عشقها، وأن من شرب من مياه نهر النيل لا يستطيع فراق مصر، وإن فارقها فإنِّه حتمًا سيعود إليها شوقًا وحبًا وذكريات لا تنسى وحنين لا ينتهي إلى القرى والنجوع والترع والغيط (الحقل) والأرياف والبحر والصحراء والإسكندرية وشرم الشيخ والغردقة والأقصر وأسوان والنوبة، وكل شبر في مصر الغالية، والى النَّاس الطيبين، وإلى الزملاء الذين كانوا هنا ثم عادوا إلى مصر. وحين يذهب أحدنا لزيارة مصر يجد الحفاوة والكرم والترحاب من هؤلاء الزملاء.

مصر العظيمة بحضارتها الضاربة في أعماق التاريخ، مصر النيل وحكايا العشق والرومانسية والفشار والذرة المشوية والأوتبيس النهري، وليل القاهرة المُدهش، وناسها وأسواقها الشعبية، والحُسين والسيدة زينب، والشوارع الصاخبة، وضجيج الباعة، وزحام الناس والأكلات الشعبية: الفول والطعمية (الفلافل) والملوخية والكوارع ولحمة الرأس والكُشري والحلويات المصرية مثل الجلاش والكُنافة والمِلَبِّس وأُم علي وبلح الشام وعصير قصب السكر والسوبيا والتمر هندي، وأكلة الفسيخ في عيد شم النسيم، والمسارح والمتاحف والقلاع والمساجد الأثرية ودور السينما، والأهرامات الشاهدة على عظمة الحضارة المصرية القديمة، والسد العالي وبحيرة ناصر ومقام السيد البدوي في طنطا.

كلما حاولت الكتابة عن مصر، شعرتُ بالعجز والحيرة من أين أبدأ؟ ماذا أكتب؟ وماذا أترك؟ هل أتكلم عن الحضارات المتعاقبة والدول التي قامت في مصر وعن عمرو بن العاص وما بعده؟ والإسلام وما فعله؟ وعن الآثار المصرية وعن الإنسان المصري الطيب المُحب للحياة صاحب الدم الخفيف والنكت الحاضرة؟ وعن الأزهر الشريف ودوره في نشر الإسلام المعتدل والوسطي في كل بقاع الأرض؟ وعن علماء الدين وهم كُثُر؟ إذ يضيق المقال عن ذكرهم كلهم. أم أكتب عن قراء القرآن الكريم؟ وعن المسرح والأفلام والمسلسلات التي غزت العالم العربي ودخلت كل بيت؟ أم عن الفنانين في مجال الغناء والأدباء والشعراء والعلماء في مختلف المجالات العلمية وفي جميع فروع العلوم؟ مصر هي الدولة العربية الوحيدة التي حصل ثلاثة من أبنائها على جائزة نوبل؛ ففي مجال السلام حصل عليها الرئيس الراحل أنور السادات، وفي الأدب نجيب محفوظ، وفي العلوم أحمد زويل.

علماء مصر وأهل الثقافة والتميز والإبداع والفكر في مختلف المجالات العلمية والأكاديمية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية وعالم الرياضة والطب والذرة وعلوم الفضاء والإعلام والصحافة ينتشرون في كل العالم، وهؤلاء يستحيل أن أُحصيهم عددًا. ولا أنسى المعلمين الذين ذهبوا إلى كل الدول العربية، وكان لهم الفضل الكبير في تعليم الناس وفي القضاء على الأمية؛ بل وفي المساهمة في الحضارة والتطور والمعاصرة في الكثير من الدول العربية، ومن ينكر فضل المُعلم المصري في الدول العربية فهو جاحد ناكر للجميل.

في هذا المقال، أريدُ أن أذكر سبب حبي لمصر ولهجة أهل مصر؛ لدرجة أنني أتحدث بها في البيت أحيانًا، لقد تعلمتُ في المراحل الابتدائية والإعدادية والثانوية والجامعة والدبلوم العالي بعد الجامعة ودبلوم الإدارة والماجستير على أيدي أساتذة جُلهم من مصر العزيزة، وتدربت في المُحاماة لمدة سنتين على يد محامٍ مصري، كان لي بمثابة الأب الحاني والناصح الأمين والقدوة الحسنة، وهو المُتدين الوقور الذي يدعو إلى أنسنة وأسلمة القوانين والعودة إلى الشريعة الإسلامية، كنا نذهب معاً في سيارتي إلى المحاكم في ولايات صحار وصحم والخابورة ولوى وشناص في الصباح الباكر، وهو يحاول أن ينقل إليّ خبرته في المُحاماة، وبعد الدوام يجلس في أحد المساجد يعلم الأطفال القرآن الكريم.

قبل ذلك، ومنذ صغري كنت غارقًا في الثقافة المصرية، وقرأتُ عشرات الروايات والقصص لكتاب من مصر منهم: محمد عبد الحليم عبدالله، ونجيب محفوظ، وإحسان عبد القدوس، وتوفيق الحكيم، وقد شجعتني رواية توفيق الحكيم "يوميات نائب في الأرياف" على التعرف أكثر على الصعيد وجمال الصعيد وبيئة الصعيد والصعايدة الذين هم أجدع وأطيب الناس، ويتصفون بالمروءة والشجاعة والنخوة والكرم والأخلاق العربية الأصيلة، وأن الصورة النمطية التي كرستها بعض الأفلام والمسلسلات عن الصعايدة غير صحيحة مطلقًا. قرأتُ بنهمٍ وإعجابٍ لشعراء مصر ومنهم فاروق جويدة وإبراهيم ناجي وأمل دنقل واستمعت لشعراء العامية عبدالرحمن الأبنودي وأحمد فؤاد نجم وبيرم التونسي وغيرهم. تابعتُ أفلام إسماعيل ياسين وعادل إمام وسعيد صالح وسمير غانم وأحمد زكي وسعاد حسني وغيرهم، وكذلك المسلسلات والمسرحيات والبرامج الإذاعية وبعض الصحف المصرية التي كانت تصل إلينا متأخرة، ومع ذلك كنت حريصًا على قراءتها.

وفي عالم الطرب أسرتني المغنية نجاة الصغيرة بصوتها الهادي والحالم، كما استمعت إلى أم كلثوم وفايزة أحمد وعبدالحليم حافظ وفريد الأطرش.

ومن حسن الطالع أن يصدر كتابي الأول في مصر، وتعلمون مكانة الإصدار الأول في نفس الكاتب، وكذلك كتابي الثاني صدر في مصر، وما زلتُ أحظى بخمسة زملاء في العمل من مصر، وحديثي معهم دائمًا عن مصر وأحوال مصر وأخبار مصر.

وضحيّ يُحب مصر العظيمة أُم الدنيا.