شيطان قابل للإعارة؟!

 

فاطمة اليمانية

 

 

"الجحيم فارغ، كل الشياطين هنا!" ويليام شكسبير.

***

هل سبق وأن قال لكم أحدهم:

  • هلّا أعرتني شيطانك؟

كان هذا السؤال يلازمها، وهي تجد نفسها عاجزة أمام قراءة الآخرين، وتشعر بأنّ شيطانها أيضا فشل في مهمته الموكلة إليه!

وتمنّت لو كان جسدا قائما تتحدثُ معه وجها لوجه.. كما تحدثت مع غيره من أشباه الشياطين؟!

وشعرت بشعور أقل رتبة من الزهو بالنفس وهي تعقد مقارنة بين الشياطين، وأشباه الشياطين.. ذلك المخلوق المربوط في الألسنة في كل شاردة وواردة.. وكل هِنَة وضعف!

والعامل "روبل" وهو يردد:

  • أعوذ بالله من الشيطان الرجيم!

فسألته:

  • ماذا فعل بكَ الشيطان مجددا؟
  • نسيت إغلاق الماء!
  • أغلقه!

هزّ رأسه امتنانا، وقال:

  • لستِ غاضبة؟!
  • قطعا!

وامتطى دراجته وغادر مبتسما! حاملا خلف ظهره شيطانه "العبيط" الذي أقصى طاقة له هو أن ينسيه الماء؛ فيتسرب إلى الحارة، لترسل الجارات:

  • في بيتكم طوفان!

كان يخشى أن تطرده؛ لكنّها لا تفعل، لأنّ شيطانها "الخامل" لا يهمّه إن فتح العامل الماء وأغرق الحارة، أو نسي سقيّ الأشجار! أو نظف باحة المنزل أو لم ينظفها!

يوما ما قالت لشيطانها:

  • أنتَ – بالذات الشيطان المناسب، في المكان المناسب!
  • وأنتِ تثرثرين كثيرا!
  • قرأت كثيرا عن الشيطان وقرين السوء، ولم يحدث أن مرّ شيطان متقاعس عن العمل كما تفعل أنت!
  • ما دمتِ مقتنعة بما قرأتِ، فلم تجادلين؟!

تأفّفت، وتركته ممدا على خيبته! وتذكرت إحدى زميلات العمل اللواتي قطعن شوطا في التمارض؛ ليتم توزيع الحصص بين زميلات العمل، خوفا عليها من قطع رزقها! لأنّها مريضة! كما تدّعي!

 لكن الطريف أنّها تنهض صباحا وتلتحق بركب العمل، وحال وصولها، تسير بخطى متثاقلة؛ لترقد حتّى الساعة العاشرة، ثم تستيقظ وتجلس قليلا، تستغفرُ الله، وترشق من حولها بنظرات باهته، قبل أن تعود للنوم! وتستفيق على صوت الجرس للمغادرة، بعين ذابلة! ووجه يحمل رائحة النوم!

فسألت شيطانها مرّة ثانية:

  • أثمة علاقة نسب بينكَ وبين شيطان سالمة؟
  • لا يوجد في عالمنا علاقات كما يحدث معكم! العلاقات تعني عدم التفرغ لدورنا في الحياة!
  • ودوركم؟
  • إفسادكم!

صرخت في وجهه:

  • إذا، قُمْ.. وباشر عملك في إفسادي!

حدّق في وجهها، وعاد للنوم ثانية.. ثم فتح نصف عين، وقال لها:

  • لستِ قاصر! افعلي ما يحلو لكِ!

ابتعدت عنه، وحدّقت في الفراغ، باحثة عن حلّ لهذه المعضلة الذهنية التي ترادوها هذا المساء، وكيف أنّها تريد أن تثبت لنفسها أنّها ليست مسؤولة مسؤولية تامّة ومطلقة عن كل شاردة وواردة في حياتها، وأنّ للشيطان دورا كبيرا في غوايتها! وليس كما كانت تردد، بأنّ الشياطين يلعبون النرد، ويسابقون حيتان البحر! ويختبئون في الجحور!

أسندت ظهرها للجدار..

علّها تغطّ في نوم عميق خارج جدران المنزل! بعيدا عن مظاهر الحياة البشرية، حيث يمارس الجميع نشاطهم المعتاد، من سبات ويقظة وعبادة مزيفة وسدّ خانة الجوع والظمأ، والغيبة والنميمة المقرونة بالاستغفار!

والاعتقاد بأنّهم وصلوا لرتبة الأولياء لأنّهم كثيرا ما يستغفرون! ويسبّحون الله!

فطرأ في بالها، أنّ شياطينهم أعلى رتبة من شيطانها!

لكنّها تذكرت بعض الأعمال المكدّسة التي يجب عليها إنجازها خلال هذا المساء، فأسرعت وارتدت عباءتها، وصعدت سيارتها، واكتشفت بأنّها نسيت المحفظة، لتلعن الشيطان الذي أنساها، فسمعت صوته خلفها:

  • الثرثرة تقتل الذاكرة!

تناولت محفظتها، وانطلقت مسرعة تجاه المكتبة التي اعتادت الذهاب إليها، وفي الطريق لمحت لافتة مكتوب عليها:

  • بيع الأدوات القرطاسية!

فواصلت السير، لكنّ خاطرا طرأ عليها جعلها تستدير قاصدة المكتبة التي مرّت بها، فهي أقرب، وربما أنجزت أعمالها بطريقة أسرع..

وضعت الكمامة! ونزلت وخلفها شيطانها الذي يتمتم:

  • في الجحيم لن أضطر إلى اقتفاء أثرك!
  • اصمت!

دخلت المكتبة، وألقت التحية، وتفاجأت بسيدة تجاوزت الستّين عاما، ويجلس قربها شاب لم يتجاوز العشرين بعد، فسألت الشاب:

  • لديكم طابعة ملونة!
  • نعم!

وهمس شيطانها في أذنها:

  • أليس شبيها بسؤال طالباتك: نكتب في الدفتر أستاذة؟!
  • نعم، ذلك النمط من الأسئلة "الغبية" التي أطالبهن بتحاشيها قدر الإمكان!
  • لماذا تسألينها إذا؟!

حدجته بنظرة غاضبة؛ فابتعد..

ولفت انتباهها وجود سلّة مهملات كبيرة مليئة بأكياس الوجبات السريعة، والعلب الفارغة التي تساقط بعضها على الأرض!

وعلى الطاولة المحاذية ما يزيد عن سبعة أكواب ملطّخة ببقايا الشاي مختلفة الأحجام والألوان!

بينما فتح الشاب الحاسوب، لطباعة الأوراق، فطبع ورقتين من أوراق الملف، ثمّ توقفت الطابعة فجأة!

فنهضت السيدة العجوز؛ لتستفسر عن العطل! وقالت للشاب بعد دقيقة من الصمت والتأمل:

  • أعد تشغيلها!

فردّ عليها بصوت منخفض:

  • سأفعل، انتظري قليلا.

مرّت دقيقتان، وبدأ الضجر يتسرب إلى الأستاذة، وقالت الشاب:

  • سأغادر إذا كانت لا تعمل!

فقالت العجوز بلغة محايدة بين الجدّ والهزل:

  • كانت تعمل، حتّى أتيتِ!

فاكتفت بالنظر في وجه العجوز، تراقب شعيرات بيضاء متطايرة، فقالت لها العجوز:

  • بإمكانكِ الذهاب والعودة غدا لاستلام الملف.
  • أعطني الفلاش، يجب تسليم الملف في الصباح الباكر.
  • حسنا، ما رأيكِ أن تختاري أحد الكتب وتجلسين للقراءة، إلى أن نعالج العطل الحادث في الطابعة؟
  • لا بأس، سأنتظر قليلا!

فانسحبت لتتأمل الدفاتر والأقلام، وكل بضاعة معروضة متناثرة لطّخها الغبار، ومذهولة من كمّية الإهمال والفوضى في هذه المكتبة المنزوية!

ثم اتّجهت للكتب، وتناولت أحد المصادر وفتحت مقدمة الكتاب لقراءة بعض الأسطر، فقال لها الشيطان:

  • أنتم تعتقدون بأن من يردد ما جاء في هذا الكتاب سيكون من الصالحين!

فأعادته إلى مكانه، وتناولت أحد المراجع القديمة في قواعد اللغة العربية، فقال لها:

  • هذا الكتاب مثير للجدل؛ لكنّكم تقدّسونه رغم أنّه ليس كتابا سماويا!

فأعادته إلى مكانه، وتناولت كتاب لا تحزن، ليسخر منها:

  • نجح مؤلفه في إقناع جمع غفير منكم؛ بأنّ قارئه لن يحزن!

أعادت الكتاب بصمت، ولفت انتباهها أنّ السيدة تتحدث إلى الكرسي، وتشتمه! بعد أن اصطدمت به، ثم بصقت عليه، وركلته بعيدا عنها!

بينما كان الشاب منغمسا في تنسيق بعض الأوراق التي تطايرت منها الحروف، ليعيدها إلى نفس حدود الصفحة للطباعة!

فلا علاقة له بحرب العجوز مع قطع الأثاث في المكتبة! ولا بالطابعة العاطلة عن العمل، ولا بتوتر الأستاذة التي تنتظر عمل الطابعة لتستلم الملف وتغادر المكان!

بينما انشغل شيطانها بقراءة قصص الأطفال والضحك وهو يقرأ قصّة العنزتين اللتين غرر بهما الشيطان، وتمّ رسم الشيطان على هيئة تيس أحمر اللون، بقرون ضخمة، وأسنان بارزة وعيون جاحظة!

فحمل القصة إليها وقال ساخرا:

  • هل للبهائم شياطين مشابهة! هكذا تتصورون عالمنا؟!

ثم فتح قصّة أخرى من قصص الأطفال، وأشار إلى رسم مخيف للشيطان وقال:

  • أجزم بأنّ كل من يشاهد هذه الصورة من الأطفال لن يرقد إلّا في حضن والديه!

أشاحت وجهها عنه بعد أن سمعت العجوز تخاطب الطابعة غاضبة، وتضرب عليها بقبضة يدها:

  • اطبعي! لماذا توقفتِ؟ لماذا لا تطبعين؟!

وفعلا سدّدت ضربة قوية لغطاء الطابعة، ثم أنزلت رأسها تجاه منفذ الأوراق، وصرخت عليها:

  • ماذا حلّ بكِ؟! لماذا تثيرين غضبي؟!

فقال لها الشاب:

  • انتظري قليلا يا خالة!
  • لكن الأستاذة تنتظرُ منذ ربع ساعة!

نهض الشاب ليعبث في أسلاك الطابعة، وكانت العجوز تردد:

  • أريد أن أسبّها، أستغفر الله العظيم من كل ذنب عظيم! لعنة الله عليك أيها الشيطان اللعين!

فذهل الشيطان، وقال:

  • هل سمعتِ؟ دخلت معك ولم أعبث بشيء! لكنّها تلعنني!
  • وتأثرت أنت!
  • جدّا!
  • عد إلى سباتك!

مرّت ربع ساعة إضافية، كان الضجر قد بلغ مبلغه من السيدة والأستاذة، وشيطانها، والغبار الذي غطّى المكان، وعلبة فارغة سقطت على الأرض لتشارك بقية العلب الاسترخاء، فدهستها العجوز بقدمها، وقالت بتَشَفّي:

  • تستحقين الدهس!

وعملت الطابعة أخيرا، بعد أن تكرم الشاب باستبدال الوصلة القديمة بأخرى جديدة، واستلمت الأستاذة الأوراق، وحصلت على خصم مجزي عن التأخير، وعلى ملف شفاف من البلاستك!

وعندما أرادت الخروج لمحت شيطانها ممدا على الكرسي؛ فحاولت السير ببطء وهدوء حتّى لا يقتفي أثرها، لكنّه انتبه لخطاها، وصعد السيارة قبلها وهي تتأفف؛ فقال لها:

  • صحيح، لدي سؤال!
  • اسأل!
  • لماذا انحرفتِ عن مساركِ وجئتِ إلى هذه المكتبة!
  • ما رأيكَ أنتَ؟ لماذا؟!

(النهاية)

 

 

تعليق عبر الفيس بوك