تنمية المحافظات عبر الاستثمار في التعليم والتدريب

 

د. عامر بن محمد العيسري

أكاديمي بقسم التربية المبكر- كلية التربية بجامعة السلطان قابوس

aalaisari@squ.edu.om

 

التعليم أساس حياة الفرد وله أهمية كبيرة في مُستقبله كما له أهمية عظمى في تنمية المجتمعات والرقي بها، فهو أساس نهضة الأمم وتطور الحضارات، وتتطلب جودة التعليم توفير كوادر مؤهلة وبيئات تعليمية مجهزة وجاذبة.

لذلك وحتى يتم توفير التعليم القائم على الجودة، تضع الدول خططًا استراتيجية لمتابعته وتقييمه وتطويره وتحدد مخصصات مالية طائلة ضمن موازناتها العامة للنهوض بالتعليم المدرسي والعالي، وتقدم فرصاً متعددة للتمويل والاستثمار في التعليم ضمن خطط التطوير الاقتصادي للمجتمعات في مجال اقتصاد التعليم، والتي تشمل مختلف جوانب العملية التربوية والتعليمية التي ترتبط بالاقتصاد الوطني؛ منها: التدريب والتعليم في جميع المراحل التعليمية، وتدريب القوى البشرية العاملة في التعليم مما يقوي العلاقة بين المنفعة والنفقة ويسهل توفير تكاليف التعليم والحصول على مردوده الإيجابي، سواء على مستوى الاقتصاد الوطني أو على مستوى الفرد، لهذا يمكن أن تكون التربية والتعليم مجالًا مربحًا ومثمرًا ومردوه أكبر من تكاليفه، وهنا تكون الحاجة ماسّة إلى إتاحة الاستثمار في التعليم وتنظيمه وتحفيزه لكي يُحقق أكبر مرود ممكن وأفضل نتيجة ممكنة.

ولقد مضت مسيرة التعليم في السلطنة بتدرج مُتسارع ضمن خطط خمسية مدروسة بدأت انطلاقاً من النطق السامي لباني النهضة العمانية السلطان قابوس بن سعيد- طيب الله ثراه- حين قال: "سنُعلِّم أبناءنا ولو تحت ظلِّ شجرة"، واستمرت بخطى ثابتة في التطوير الكمي والنوعي للمؤسسات التعليمية لإتاحة التعليم لجميع الطلاب في البلاد، سعياً لمواصلة مسيرة تطويره كمًا ونوعًا باعتباره ضمن أولويات النهضة المُتجددة لعُمان استرشادا بالنطق السامي لقائد نهضة عُمان المتجددة حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم- حفظه الله ورعاه- حين قال: "إنَّ الاهتمام بقطاع التعليم بمختلف أنواعه ومستوياته وتوفير البيئة الداعمة والمحفزة للبحث العلمي والابتكار سوف يكون في سلم أولوياتنا الوطنية وسنمده بكافة أسباب التمكين باعتباره الأساس الذي من خلاله سيتمكن أبناؤنا من الإسهام في بناء متطلبات المرحلة المُقبلة".

وسعيًا إلى تنويع التعليم وإتاحته للجميع بمختلف المستويات، كان هناك التعليم الحكومي والتعليم الخاص الذي يعمل رديفا ومساندا للتعليم الحكومي خصوصًا في المستويات والتخصصات التي لا تتوافر في المؤسسات التعليمية.

وبمطالعة نتائج عدد من الدراسات وتقرير التعليم للجميع وتقرير تمكين ورفاهية الأطفال في السلطنة والتي ركزت اهتماماتها على رفع تصنيف السلطنة في تقديم خدمات الرعاية والتعليم للأطفال في عدة مجالات، أوضحت وجود جوانب تطور ونهوض عديدة في الاهتمام برعاية الأطفال وتعليمهم، لكن بالمقابل توجد عدة جوانب للقصور تتطلب المزيد من الاهتمام من الجهات المسؤولة لرفع التصنيف التنافسي للسلطنة بجوار باقي دول العالم في مؤشرات الأداء؛ ومنها على سبيل المثال: في مجال التعليم المدرسي، من حيث إتاحة التعليم قبل المدرسي للأطفال بمرحلة الطفولة المبكرة، وزيادة معدلات الالتحاق بالحضانات ورياض الأطفال؛ لأن معدل الالتحاق في هذه المرحلة لا يزال في مستويات ضعيفة، وكذلك معدلات التحاق الأطفال ذوي الإعاقة في المؤسسات التعليمية المجهزة لاستقبال هذه الفئة، فهي الأخرى يعتريها الضعف لعدم وجود مراكز ومؤسسات كافية لاستيعاب الأطفال ذوي الإعاقة بمختلف أنواع الإعاقات.

وبمقارنة المحافظات في السلطنة نجد أن الإحصاءات تشير إلى تركز هذه الخدمات في محافظات بعينها وخلو بعض المحافظات من المؤسسات التي تقدم هذه الخدمات الرعائية والتعليمية للأطفال مما أدى إلى حرمان الأطفال من الالتحاق بالتعليم في رياض الأطفال ومراكز ذوي الإعاقة لعدم توفرها أو لندرتها وقلة المتخصصين فيها.

التعليم العالي كذلك ما زال حقلًا خصبًا لتوفير مؤسسات الإعداد والتدريب ذات الجودة في مختلف التخصصات، وهناك حاجة ماسة لإعادة توزيع توفر مؤسسات التعليم العالي والتدريب المتخصص في مختلف محافظات السلطنة؛ حيث تفتقر بعض المحافظات لمؤسسات الإعداد والتدريب التي تحتاجها الأجيال من الكوادر المتوفرة فيها.

وزارة الاقتصاد قامت مؤخرًا بعد اعتماد الخطة الخمسية العاشرة بموجب المرسوم السلطاني رقم (1/2021)، وتنفيذًا للتوجيهات السامية لحضرة صاحب الجلالة السلطان المعظم- حفظه الله-  باستحداث مشروع برنامج تنمية المحافظة واعتماد مبلغ مليوني ريال عُماني لكل محافظة لعام 2021 وتخصيص مليوني ريال عُماني كسقف صرف إنمائي لتلك المشاريع في عام 2021، والذي يتضمن التأكيد على التوجه الاستراتيجي للأولوية والمتمثل في "تنمية شاملة جغرافيًّا تتبع نهجًا لا مركزيًّا وتطور عددًا لا محدود من المراكز الحضرية الرئيسة، واستخدام مستدام للأراضي".

من هنا نجد أن الفرصة سانحة لجميع محافظات السلطنة ضمن ترتيب أولوياتها أن تسعى بكل جد لتخطيط مشاريع حيوية من شأنها تقديم الخدمات التعليمية والرعائية لفئات الأطفال وتنمية الموارد البشرية التي هي بالتأكيد ضمن أولويات رؤية "عُمان 2040" التي أكدت على تنمية الإنسان العماني وتوفير الرعاية للشباب الذي يقوم عليه مستقبل البلاد إنتاجًا وبناء وعمرانًا.

إن إعادة تخطيط الأراضي المتوفرة في المحافظات لإنشاء مؤسسات تعليمية وتدريبية في التعليم المدرسي وخصوصا في التعليم المدرسي المبكر وكذلك توفير جامعات وكليات تخصصية تطرح تخصصات مفقودة أو قليلة التوافر في البلاد بشكل عام وفي بعض محافظات السلطنة بشكل خاص، فيمكن للمحافظات أن تطرح عددًا من هذه الأراضي للاستثمار التعليمي؛ ليستفيد منها المستثمرون في التعليم الخاص لإنشاء مدارس خاصة ذات جودة تقدم خدمات التعليم المبكر من حضانات ورياض أطفال لجميع الأطفال في مختلف المحافظات، على أن تضع المحافظات معايير تنافسية للمستثمرين من خلال إتاحة مقاعد التعليم لأبناء المحافظة برسوم تنافسية، وتخصيص مقاعد برسوم رمزية لأبناء الأسر ذات الدخل المحدود، وتوفير فرص العمل لأبناء المحافظة في هذه المؤسسات، على أن تقدم للمستثمرين التسهيلات مقابل تنافسهم في الالتزام بهذه المعايير التنافسية، أو أن تسعى المحافظات لإنشاء مدارس خاصة تحت إدارتها تستثمر من خلالها في بناء عقول شبابها لتتمكن في المستقبل من تسليم راية البناء والتشييد للأجيال القادمة بعد أن تتيح لهم فرصاً متنوعة من التعليم والإعداد والتدريب، وكذلك توفر فرص عمل جيدة ومتنوعة لأبناء المحافظة سعياً لتوفير كوادر بشرية مؤهلة في جميع القطاعات.

ويمكن للمحافظات تخصيص الأراضي الاستثمارية من أجل تاحة الفرصة لتشييد مؤسسات التعليم العالي من كليات وجامعات، وكذلك مراكز التدريب المتخصصة في قطاعات متعددة تتناسب مع طبيعة احتياجات كل محافظة في سوق العمل ووفق الخصائص البيئية والجغرافية التي تتميز بها، والتي ستوفر لها كوادر بشرية مؤهلة للعمل بمختلف القطاعات بكل اقتدار وفاعلية.

وبما أن الأهمية ماسة وحاضرة لتوفير المكتبات الزاخرة بكل صنوف المصادر العلمية الورقية والإلكترونية ومراكز البحث التي تهتم بدراسة القضايا المجتمعية والفكرية والثقافية والاقتصادية والعلمية العلمية، فيمكن أن تسعى المحافظات ضمن برامجها التنموية أن تستثمر في مجال تشييد المكتبات العامة والخاصة وتجهيز المراكز البحثية المتخصصة لتكون كل خطواتها المستقبلية القادمة قائمة على أساس علمي وبحثي صلب ومتين، لتتقدم في مراحل التنمية والتطوير بخطى ثابتة وخطط مدروسة.

تعليق عبر الفيس بوك