الصَدْمَة

 

فاطمة اليمانية

 

"الحياة فعليا تبدأ في الأربعين؛ حتّى ذلك الوقت أنت تقوم بمجرد أبحاث!" كارل يونغ.

 

قررت الاحتفال مع نفسها بمُناسبة عيد ميلادها الرابع والأربعين، وأخرجت ثوبا أسود اللون، متأثرة برواية أحلام مستغانمي "الأسود يليق بكِ"!

أو بالافتراضات التي قرأتها في مواقع الأبراج، والتي يدّعي أصحابها أنّ مولودة برج العقرب تفضل اللون الأسود! وتشعر بالراحة أثناء ارتدائه!

وأعدّت كوبا ثقيلاً من القهوة السوداء وفتحت التلفاز ليُشاركها فعاليات الاحتفال، متنقلة بين القنوات العربية، وما تجود به من برامج متنافرة متناحرة، انعكاسا للأوضاع العربية قاطبة!

  • ما الذي أوصلها إلى هنا؟!
  • الهوس!

نفضت رأسها، وارتشفت قليلاً من القهوة؛ لتعود إلى نقطة الصفر من الصفاء الذهني، فهي الآن امرأة عربية مغمورة في بيت مجهول، في قرية نائية، تملك بطاقة هوية، ووظيفة، واسم، وقبيلة!

وهذا في نظرها قمّة الرفاهية، مقارنة مع غيرها من النساء العاملات في مزارع الشاي السيلاني، أو مناجم الفحم الأفريقي! أو الفتيات الريفيات الكادحات المجبرات على إعداد الخبز منذ الصباح الباكر، ورعي الأغنام والتنظيف والغسيل! وقائمة طويلة عريضة؛ أثارت حفيظتها وجعلتها تعود مرّة ثانية إلى نفض المقارنات الصمغية التي تلتصق بجبهتها وتثقل رأسها، ويجب عليها أن تتخلى عنها، على الأقل هذه الليلة!

واستقرت أخيرًا على قناة (إم بي سي) على برنامج (الصدمة) مُتفاعلة مع ردة فعل الآخرين تجاه المواقف الّلاإنسانية، بطريقة تستفز المشاهدين، ثم يُشْفَى غليلهم، بعد أن يتلقى بطل البرنامج -الذي يعمل بكل ما أوتي من طاقة على الاستفزاز- صفعة أو ركلة، أو يُطرَح أرضا، ليهرول فريق الإعداد لإنقاذ ما تبقى من ماء وجهه، أو عظامه مُغيْثا:

  • معكم برنامج الصدمة!

فتسترجع ذاكرتها تلقائيا بعض الصدمات التي تعرضت لها في حياتها، تلك المتعلقة بفتح الباب بعد يوم حافل في العمل؛ فتشاهد أو تسمع ما يشلّ حركتها على النطق، وتظل مصدومة.. مصدومة إلى ما لا نهاية!

كصدمتها وهي تتلقى رسالة من ذلك النوع العاطفي! ومن طرف لا يشعر تجاهها بأيّ عاطفة! فقرأتها بشجن:

  • عيد ميلاد سعيد!
  • كانت من البنك!

 ثم وصلتها رسالة تهنئة أخرى من الفيسبوك، بينما تجاهلها تويتر تماماً!

كما تتجاهلها الأمنية المقرونة بعيد الميلاد السعيد!

ولا يهمّ كثيرا موضوع السعادة والشقاء.. عاشت سنوات طويلة لا تميز بينها...

هي الآن امرأة لا وجود لها إلا في عالم افتراضي...

  • عجوز؟!

حتى الشيخوخة لم تعد تُثير مخاوفها.. ولا تتسبب في إحراجها ...

قبيحة؟ وإن كانت؟! فلن يشاركها أحد النظر إلى وجهها...

الشيء الوحيد الذي تهتم له الآن... أن يستمر دافعها للكتابة..

  • لكنّه ذبل سريعا!

وانتهت قدرة قلمها على التلّوي؛ كما تفعل "أمّ أربعة وأربعين" التي أرادت مشاركتها فعاليات عيد ميلادها! فاستقبلتها بالسقوط على قمّة رأسها!

لتصرخُ رعبا وقرفا!

  • منها؟!
  • ومن الرسالة السافرة التي ربطت بين حضورها وبين عمرها الجديد!

فترفع رأسها للسطح مخاطبة مجهولا! وكأنّ روحا ما تعمّدت إلقاءها في وجهها، فيرد الصوت:

  • هدية عيد ميلادك!

فتعود ثانية للبحث عنها، وتعثر عليها مقلوبة على ظهرها، تتلوّى ألما!

  • من قال لها بأنّها تتألم؟!
  • إحساسها!
  • الأحمق؟!

هو نفسه الذي يصور لها بأنّ الباب إذا ارتطم يتألم؟! والكوب إذا وضعته على الطاولة بقوة.. يتألم؟!

وبأنّ جميع جدران المنزل المهترئ يطارحها الرقص ألما وتأوّها!

وتعتقد بأنّ ذلك الطائر الداكن يعرف بأنّها تبكي من أعماقها، فيبعث أصواتا تظنّها نواحا!

  • هل لهذا الألم من حدّ؟!
  • ......
  • هل؟!

سمعت صراخا، ثم فُتِحَ البابُ الخارجي فجأة، وانطلَقت منه فتاةٌ ترتجفُ، وأمسكت يديها مستجديه:

  • خبئيني!

لم تكن تفهم شيئا مما يحدث! وهي تتراقص خوفا أمامها:

  • خبئيني في مكان آمن!

تأمّلتها قليلا، وسألتها:

  • لستِ برنامج الصدمة؟!
  • خبئيني!
  • إلى المخزن!

فولجت إليه وسمعت صوت المفتاح! وأدرَكت أنّ الفتاة أغلقت على نفسها بالمفتاح! وبدأت الهواجس تتسلل إليها، فهي لا تعرف قصّة هذه الفتاة، ولا نواياها! فقالت لها:

  • اسمعي! أنتِ والشيطان، وثالثكما..
  • حبل؟
  • بل فأر يتراقص في المخزن!

أسرعت الفتاة لفتح الباب:

  • فأر!
  • نعم.. ثمّة فأر في المكان؟!
  • هل يوجد مكان آخر لأختبئ؟!
  • لا مكان أكثر أمْنا من مواجهة مخاوفِك!

خرجت من المخزن، واتّجهت للجلوس على أحد الكراسي المركونة في المطبخ!

ووضعت رأسها بين يديها ودخلت في نوبة بكاء عميق!

فناولتها ماءً، وقالت لها:

  • استراحة محارب!

ابتسمت الفتاة، وشربت الماء بأكمله! بينما وضعت إبريق الشاي على الغاز، وقالت لها:

  • هل تعرفين بأنّني أقسمْتُ ألّا أُعِدّ الشاي هذا المساء؟!

صمتت الفتاة، لا تعرف ماذا تقول لها، فتابعت السيدة:

  • وألّا أستقبل ضيوفا هذا اليوم!
  • حسنا، أعتذر!
  • لا تعتذري، أنتِ لاجئة! وهذا شاي استثنائي! ليس مشروعا عملاقا! مجرد كوبين كبيرين من الماء في إبريق تافه! وثلاث فتلات من شاي البابونج الذي لا أشربه! لكنّني سمعتُ بأنّ له تأثيرا مذهِلا على تهدئة الأعصاب!
  • لماذا تصفين الإبريق بالتّافه؟!
  • لأنّ وظيفته الوحيدة في الحياة الغليان!

قدّمت شاي البابونج للفتاة، وجلست قبالتها، وقالت لها:

  • هيئة الإغاثة الإنسانية! تستجوب اللاجئين عن أسباب طلبهم اللّجوء!

لم ترد الفتاة؛ بل ارتشفت الشاي، ولمعت عيناها الداكنتان، كلمعةِ عينيّ الإنسان المتورط خجلاً من رفض تناول شيء لا يحبّه، فانتبهت لها السيدة وقالت:

  • واصلي شرب الشاي، فالحياة ستقدم لكِ الكثير من الأشياء التي يجب عليكِ ابتلاعها!

فارتشفت المزيد، وبدأت تستسيغ طعمه، وسألتها:

  • لماذا لا تشربين منه إذا؟
  • لأنّني في منتصف الأربعين؟!
  • وما الفرق؟!
  • الأربعون عمر استثنائي، ينقلك إلى حياة مختلفة، ويصبح لكِ أجنحة تمّكنكِ من الطيران!
  • ما زال الدرب طويلاً!
  • عشرون؟!
  • اليوم أكملتُ عشرين عاما!
  • تدرسين؟
  • في السنة الثالثة!
  • كل من في العشرين يمارسون الهروب!
  • هل هربتِ من منزل عائلتك؟
  • لم أهرب، لعدم توافر عائلة أهرب منها!

حدّقت الفتاة في وجهها، وأرادت سؤالها؛ لكنّها ترددت ظنّا منها أنّ سؤالها عن العائلة ربّما يتسبب في إزعاجها!

فعرفت ما يدور في ذهن الفتاة عنها، وسكبت لها كوبا آخر، فأخذ لون بشرتها الشاحب في التورّد، وكأنّ الدماء دبّت في عروقها من جديد.. واكتشفت أنّها خرجت غاضبة من عائلتها بعد مشادّة معهم حول موضوع ما!

  • ما الموضوع الذي يجعلك تفرّين بطريقة الأفلام الهندية؟!

وقبل أن ترّد الفتاة سمعت طرقاً عنيفاً على الباب، ثم اقتحم أهل الفتاة المطبخ، وشدّها شقيقها الذي لا يتجاوز الخامسة عشرة من يدها، فجذبتها أمّها لحضنها باكية، وخرجت مع أهلها بعد محاولة تلطيف الجو، والوصول إلى اتّفاق.

 كانت تشاهد الدراما أمام عينها، محاولة كتم ضحكتها، ثمّ حنقها وضبط أعصابها وصدمتها بعد أن قالت لها أمّ الفتاة:

  • أنتِ غرّرتِ بابنتي!

وكانت البنت تحاول إقناعهم بأنّها لا علاقة لها بها، لكنّ الغمامة السوداء المستحوذة على دماغ الأمّ جعلتها تفرغ كميّة كبيرة من الهراء الذي لا معنى له!

وهي تدرك تماماً أنّها وبعد أن تستوعب الحكاية من الفتاة، سترسل معتذرة:

  • أعتذر!

كما يفعل الجميع معها، ببساطة شديدة يلقون التّهم جزافا، ويُسْقِطُون مشاعرهم عليها، ثم يعتذرون!

كانت في السابق تردّ على رسائل الاعتذار، وتفتح صفحة جديدة؛ لأنّ الدنيا لا تستحق كلّ هذا العناء!

وبعد دخولها الأربعين، لم تعد تعبأ بالرد على الاعتذار، رغم قناعتها التّامّة بأنّ الدنيا لا تستحق كل هذا العناء!

أرسلت لها الفتاة في المساء تعتذر منها، وتخبرها بأنّها حصلت على رقمها من إحدى الجارات، وقالت لها:

  • سنزورك أنا وأمّي حتّى تعتذر لكِ وجهاً لوجه!

حظرت رقم الفتاة، وكل من أرسل لها خلال تلك الساعة، فلا وقت للتّفاهات! ولا لمزيد من الرسائل التي يستظرف فيها أصحابها ظنّا منهم أنّ دماءهم صُنِعت من شهد وسُكّر!

عادت لقراءة الأبراج التي لا تؤمن بها، وقرأت في الجريدة في خانة برج العقرب:

  • قد تتعرض لمواقف صادمة! فاضبط أعصابك!

تعليق عبر الفيس بوك