ثاني أوكسيد الكربون.. التركة العالمية الثقيلة

 

أحمد الرحبي

تبدأ اليوم الأحد في جلاسكو، أكبر مدن أسكتلندا، أعمال قمة الأمم المتحدة للمناخ (كوب 26)، وهي قمة سنوية تحضرها 197 دولة من أجل مُناقشة تغير المناخ، والكيفية التي تواجه بها الدول المشاركة، هذه المشكلة العالمية، وهي تعتبر جزءا من اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية بشأن التغير المناخي، التي تأتي ترجمة لمعاهدة دولية وقعتها تقريباً، جميع الدول والمناطق في العالم بهدف الحد من تأثير النشاط البشري على المناخ في العالم أجمع، من أجل مُواجهة هذه المشكلة ومُعالجتها.

هذا التجمع الأممي بشأن المناخ، هو السادس والعشرون منذ دخول المعاهدة حيز التنفيذ في 21 مارس 1994. وتستمر أعمال القمة حتى 12 نوفمبر المقبل. وهي محاولة يراها خبراء المناخ الأخيرة لإبقاء الاحترار العالمي عند 1.5 درجة مئوية خلال القرن الجاري. وتنبع أهمية هذا المُؤتمر، لأنه سيكون أول قمة تراجِع مدى التَّقدم أو الفشل الذي أحرزته الدول لتحقيق الأهداف المطلوبة منذ توقيع اتفاقية باريس للمناخ في عام 2015.

وإذا كان من همٍّ تهتم به هذه القمة للمناخ والقمم السابقة، فهو همُّ ثاني أوكسيد الكربون، وما يشكله من خطر محدق على الأرض وساكنتها، بعد تفشيه وازدياده في الغلاف الجوي، فبحلول القرن التاسع عشر، بدأت تزداد وبشكل كبير كميات غاز ثاني أوكسيد الكربون المنبعثة في الغلاف الجوي بفعل الأنشطة البشرية، من خلال حرق المزيد من الوقود الأحفوري-الفحم والنفط والغاز-، الذي أفضى إلى زيادة كميات ثاني أوكسيد الكربون في الهواء. على مدى عقود، حتى قبل اختراع السيارات أو المحطات التي تعمل بالفحم، أدرك العالم مخاطر الاحتباس الحراري الناتج عن المستويات المفرطة من ثاني أوكسيد الكربون في الهواء.

وللقصة -قصة ثاني أوكسيد الكربون- بداية مُبكرة، وكان ذلك في العام 1856؛ أي قبل وقت طويل من الانقسام السياسي الدائر حالياً حول التغير المناخي، منذ أكثر من 165 عامًا، وذلك عندما نجحت العالمة الأمريكية يونيس فوت بتوثيق الأسباب الكامنة وراء أزمة التغير المناخي التي نعيشها اليوم، لتصبح إحدى رائدات علوم المناخ التي لم يُسمع عنها مطلقًا. وربما هذا يُذكرنا بالناشطة السويدية جريتا ثونبرج التي ألقت خطاباً حماسياً، في القمة المناخية السابقة (مؤتمر الأطراف 25) في مدريد، محذرة قادة العالم من مخاطر التقاعس عما يحدث للمناخ وتجاهل الأدلة العلمية بشأنها.

والشيء بالشيء يُذكر- كما يُقال- في ورقة علمية مختصرة، وصفت فوت، أول عالمة هاوية عرفت بـ"فيلسوفة الطبيعة"، قوة غاز ثاني أوكسيد الكربون الاستثنائية في امتصاص الحرارة، بالقوة الدافعة للاحتباس الحراري. فمع ارتفاع درجة حرارة سطح الأرض، قد يظن البعض أن الحرارة ستشع ثانية في الفضاء، لكن المسألة ليست بهذه السهولة؛ إذ يظل الغلاف الجوي أكثر سخونة من المتوقع بسبب الغازات الدفيئة مثل ثاني أوكسيد الكربون والميثان وبخار الماء، التي، جميعها، ستمتص الحرارة المنبعثة.

ومن خلال تجربة بسيطة أجرتها، وضعت يونيس فوت مقياس حرارة داخل أسطوانتين زجاجيتين، ضخت غاز ثاني أوكسيد الكربون في الأولى، والهواء في الثانية، ثم قامت بوضع الأسطوانتين تحت الشمس، لتكتشف بعدها أن الأسطوانة التي تحوي ثاني أوكسيد الكربون كانت أكثر سخونة من تلك التي بداخلها هواء، وأدركت فوت حينها أن ثاني أوكسيد الكربون يمتص وبقوة الحرارة الموجودة في الغلاف الجوي. وقاد اكتشاف فوت هذا إلى استنتاجها بأنه: "في حال تم مزج الهواء مع كمية أكبر من ثاني أوكسيد الكربون من الموجودة حاليا، سينتج عنه ارتفاع بدرجات الحرارة".

وقدمت ورقتها البحثية إلى الاجتماع السنوي للجمعية الأمريكية لتقدم العلوم، من قبل زميلها عالم الفيزياء جوزيف هنري، ليقرأها بالنيابة عنها، لكن لم يتم تضمين ورقتها البحثية، المكونة من صفحة قصيرة ونصف الصفحة، كما لم يعرض هنري الورقة ضمن وقائع المؤتمر؛ لتُنشر في عام 1856، في المجلة الأمريكية للعلوم والفنون.

وبعدها بسنوات، وتحديدًا في عام 1861، قام العالم الإيرلندي الشهير جون تيندال، بقياس امتصاص ثاني أوكسيد الكربون للحرارة، وقد أبدى دهشته بأن شيئا "غاية في الشفافية للضوء" يمكنه امتصاص الحرارة بقوة، ما دفعه للقيام بعدة مئات من التجارب باستخدام هذه المادة الوحيدة؛ ليدرك هو الآخر تأثيراته المحتملة على المناخ، مشيرًا إلى إسهام غازات هيدروكربونية أخرى كالميثان، في التغير المناخي. لم يأت تيندال إلى ذكر فوت؛ بل أرجع الفضل في عمله إلى ماتياس بوييه، الذي عمل على دراسة مرور الإشعاع الشمسي عبر الغلاف الجوي، ولا يُعرف إن كان يعلم بما قامت به فوت أم كان يعتقد بأنه غير معروف وغير ذي صلة.

وفي سيرة المتهم الأول والأخطر على مستوى العالم، أي ثاني أوكسيد الكربون، نقرأ أنه مركّب كيميائي من الأكسجين والكربون له الصيغة الكيميائيّة "CO2"، وعند ظروف الضغط والحرارة القياسيّين يكون ثنائي أكسيد الكربون على شكل غاز عديم اللون والرائحة، وهو غير قابل للاشتعال، وله صفة حمضية، كما إنه سهل الانحلال في الماء.

ويشكّل غاز CO2 ما متوسّطه 0.040% من حجم الغلاف الجوّي؛ أي ما يعادل 400 جزء في المليون في حدود سنة 2014، (وقد بلغ أعلى نسبة له سنة 2016 بمعدل 416 جزءًا في المليون). كجزء من دورة الكربون، تستخدم النباتات والطحالب والزراقم (البكتيريا الزرقاء) طاقة الضوء لتقوم بالتمثيل الضوئي للسكريّات من ثنائي أكسيد الكربون والماء، وينتج عن ذلك تكوّن أكسجين كناتج للعملية.

وفي المُقابل، فإنَّ عملية التمثيل الضوئي لا تتمّ في الظلام، وتقوم النباتات بإنتاج ثنائي أكسيد الكربون ليلاً أثناء عملية التنفس الخلوي. إضافة إلى ذلك، فإنَّ ثنائي أكسيد الكربون ينتج خلال زفير البشر وسائر الكائنات الهوائية. كما ينتج ثنائي أكسيد الكربون خلال عمليات تحلّل المواد العضويّة، وأثناء تخمّر السكريّات، وكناتج لاحتراق الخشب والسكريّات ومُعظم الوقود الأحفوري الغنيّ بالكربون والهيدروكربون، كالفحم والخثّ والنفط والغاز الطبيعي. ينبعث CO2 أيضاً من البراكين والحمم والعيون الحمئة (السخّانات)، كما يتحرّر من صخور الكربونات عند إذابتها في الأحماض، بالإضافة إلى تواجده أيضاً في البحيرات، وفي أعماق البحار ممتزجاً مع ترسّبات النفط والغاز.

الخطورة التي بات يشكلها هذا الغاز على العالم، تنبع من كون أن رئتي كوكبنا قد تشبعتا به إلى حد الاختناق، طالما أنه ما زالت مصانعنا التي تعتمد على الوقود الأحفوري، تنفثه، وحتى سياراتنا وطائراتنا وسفننا، وحتى الأبقار في المزارع لها مساهمتها في مضاعفة هذا الغاز في الغلاف الجوي، وما ينتج عنه من احترار عالمي، أصبح بسببه مستقبل البشرية على المحك، نتيجة ما يسببه من تغير في قيم المناخ حول العالم، ما يؤدي إلى حدوث كثير من الفيضانات في مناطق كثيرة من العالم، وتعرض مناطق أخرى في العالم إلى مواسم حادة من الجفاف، وارتفاع درجات الحرارة بشكل لا يطاق، إضافة إلى مسؤولية الاحترار عن تعرض الثلوج في القطبين للذوبان وهو ما يُؤدي إلى رفع مستوى البحار والمحيطات في العالم، مما يعرض المناطق العامرة بالسكان الواقعة في السواحل والدلتات، إلى الغرق، على المدى البعيد، وهو ما يؤدي بدوره- مع هذه العوامل مجتمعة- إلى خلق ما بات يعرف، بالهجرات المناخية في العالم.