نيتشه!

 

فاطمة اليمانية

 

أيا جارتا ما أنصفَ الدهرُ بيننا*** تعالي.. أقاسمك الهموم تعالي!

(أبو فراس الحمداني)

***

سَأَلتَنِي طالبتي المُخَتَلِفة.. المُميزة جدا خلود أو كما كُنّا نطلق عليها "نيتشه":

  • هل جميع الأسئلة العاطفية، تبدأ بهل؟!
  • العاطفية؟!
  • هل تجاوزتُ حدودي بسؤالي؟!

فنبّهتها إلى طبيعة هذه الأسئلة، وكيف تأخذ أبعادا في ذهن الآخر؟! وكيف تستطيع أن تخلق عوالم من الشكّ والهواجس، والتّهم.. وأنّ الحياة بلا عاطفة أكثر صحّة وجمالا وتألّقا! وأنّني الآن:

  • أَكْذِب!
  • وليست المرّة الأولى؟!
  • ولا الأخيرة؟!

وأوصلّتها إلى قناعة تامّة بأنّنا جميعا نكذب! في ظرف ما.. في وقت ما! وبأنّ الحياةَ كذبة كبيرة كما يقول:

  • الفيلسوف؟!
  • هل يحتاج إلى الاستشهاد بأسماء أكبر الفلاسفة والمفكرين لأثباتّ الثقافة؟!
  • هذا الأمر دارج جدّا!
  • نيتشه!

لكنّ الشيء الوحيد الذي كانت تؤمن به طالبتي، ومقتنعة به تماما! تماما!

وتعتبرها المقولة التي رفعت من أفكار "نيتشه" عاليا، ليصبح في نظرها أعظم فيلسوفٍ مرّ على البشرية، تلك الفكرة المرتبطة بالنضج الفكري والولادة!

فالمرء يصل إلى قمة النضج عند سؤاله والديه:

  • لماذا أنجبتمونا؟!
  • لماذا؟

لتطرح هذا السؤال على والدها-بعد قراءة كتاب نيتشه- فنظر في وجهها الشاحب! وقال:

  • لتأتي أنتِ وتطرحي عليّ هذا السؤال!

لكنّ لزوجة والدها إجابة أخرى، إذ فتحت باب المطبخ على اتّساعه، وقالت لها:

  • أعِدّي العشاء، واتركي هذه السخافات!
  • كثيرا ما نرفض فكرة ما؛ لمجرد أنّ النبرة التي قيلت بها تثير النفور.[1]
  • هل أطلب منك إعداد العشاء وأنا أرقص؟!
  • أحمق من لا يزال يتعثر في الأحجار والبشر.[2]

فصفقت الباب في وجهها، وجلست تنتفض غضبا قرب زوجها:

  • ابنتك!
  • ما بها؟!
  • مجنونة؟!
  • تشبه والدها!

رمقته وهي تنفخ من شدّة الإعياء، وجحظت عيناها كأنّها توشك أن تسقط في حجرها:

  • هل أنا متورطة في عائلة مجانين؟!
  • تقريبا!

وبدأت تسرد تاريخها في الصبر، والطهي، وتربية أولاده بعد وفاة زوجته، وكيف أنّ ابنته العشرينية التي لم تحصل بعد على وظيفة تحضر بها عاملة للمنزل، تهرب إلى عالم مليء بالكتب الغريبة! وتعشق رجلا اسمه:

  • نيتشه!
  • إنّه فيلسوف!
  • وما يدريك أنت! أو ماذا تقصد، ربما اسم مستعار!

ضحك زوجها كثيرا؛ فنهضت إلى غرفتها وأغلقت الباب بقوة!

بينما انشغلت خلود في التفكير في إعداد طعام العشاء؛ فسمعت طرقا خفيفا على الباب، ثم دخل والدها، وسألها:

  • هل أساعدك؟
  • دقائق وينتهي العشاء.
  • أين العشاء أساسا؟!
  • لا أعرف ماذا تريدون!

ضحك والدها، يبدو أنّها سرحت بعد إغلاق باب المطبخ عليها، هذه الابنة شاردة الذهن، كانت تشبه والدتها كثيرا.. تشبهها في الملامح، وكثرة النسيان أو السرحان!

وطلب منها العودة إلى غرفتها؛ وإنجاز أعمالها؛ فتناولت الكتاب الذي وضعته على الطاولة، وغادرت المطبخ؛ ليعدّ والدها العشاء على طريقة المرحومة، وهو يردد أغنيتها المفضلة أثناء انغماسها في الطهي، وتشدو بشجنٍ على صوت ناظم الغزالي، وهو يردد أبياتا لأبي فراس الحمداني:

  • أيضحك مأسور وتبكي طليقــــــــة***ويسكت محزون ويندب ســالِ!
  • لقد كنت أولى منكِ بالدمع مقلـــــة***ولكن دمعي في الحوادث غالِ!

فنزلت دموعه لوعة على فراقها، فدخلت زوجته المطبخ، وسألته:

  • أين خلود؟!
  • والدها هنا! موجود!

زمّت شفتيها، وسألته بعد أن رأت دموعه:

  • تذكرت المرحومة؟

لم يرد، واكتفى بالاستماع إلى لمزها له بالكلام، وبأنّه يحب زوجته أكثر منها، ودعت على نفسها بالموت؛ ليشعر بقيمتها، ولم تصمت تلك الليلة، بل واصلت تذمّرها وشعورها بالاستياء والغيرة من زوجته الميّته؛ قبل العشاء، وعلى سفرة الطعام، وبعد الانتهاء، لم تصمت إلّا بعد أن طمسها النعاس!

بل واصلت هذيانها أثناء النوم، فوضع زوجها المخدة على أذنه، وسحب نفسه على الكنبة ليواصل الرقاد! بعيدا عن هلوستها!

 بينما ظلّت خلود تقارع هواجسها وأفكارها عن الحياة، والموت، والوعي، والنضج!

وماذا يخبئ لها القدر، ومتى ستنتهي طقوس هروبها من نظرات والدها المليئة بالشفقة، وزوجة والدها التي تعلن النفير على مدار الساعة، وتُشْعِر المرءُ بأنّه على أهبة الاستعداد لحدوث مصيبة، عدا عن كلماتها المستفزة التي تنطلق كرصاصات طائشة في جميع الاتّجاهات!

في اليوم التالي قالت لها:

  • لماذا لا تتزوجين؟

حملت نفسها، وكوب الشاي البارد، ودخلت غرفتها بعيدا عنها، وعن النقاش في هذا الموضوع، فهي لا تريد الزواج؛ لأنّها لا تعرف كُنْه الزواج! وهل هو الحرية في هيئة قيد؟ ووثيقة قانونية؟! أم القيد الذي سيحررها من نظرات زوجة والدها؟ وسلبية والدها في إدارة المنزل؟ أو رغبة دفينة فيها لتقليد الأخريات من صديقاتها؟! وهل التفكير في التقليد قيد فكري أم نفسي؟! أو ما رأي الفلاسفة في مثل هذه الورطة؟!

وهل ستظل طوال العمر هكذا؟ أم ستتزوج محاكاة للآخرين؟ أو ماذا ينبغي أن تفعل؟ لتقنع الآخرين بالكفّ عن هذا السؤال؟

  • متى ستتزوجين؟!
  • يقول نيتشه: الدليل على نجاح زواج ما هو كونه "استثناء"!

فتمنّت أن يكون زواجها – إن حدث- من هذا النوع الاستثنائي!

وفي المساء سمعت طرقا خفيفا على باب غرفتها، كان والدها، وخلفه زوجته ترشقها بنظرات حادّة! وقال لها:

  • تعالي إلى الصالة؛ لنتحدث!

جلست قبالته وشعور بالخوف يعتري قلبها، فلأول مرّة يحدثها والدها بهذه الطريقة الجادّة؛ فقال لها بعد أن تنحنح:

  • ستتزوجين شقيق زوجة شقيق زوجتي!

لم تفهم من ستتزوج بالضبط؟ شقيق زوجته؟ أو شقيق زوجة شقيقها! فقالت بعد أن نفضت رأسها:

  • لم أفهم؟!

حاول تكرار العبارة التي حفظها عن ظهر قلب؛ لكنّه أخطأ، وقال:

  • شقيق زوجتي.

فصرخت زوجته:

  • شقيق زوجة شقيقي! هل أنا مجنونة لأورّط شقيقي في هذه العائلة!

نظر إليها، كاتما غيظه:

  • ألم تجدي عريسا وصفه أسهل من ذلك؟!
  • احمدو ربّكم أنّه وافق على الزواج بابنتك المجنونة!
  • آها.. حسنا!

حدّقت في وجه زوجة والدها، وقالت لها محاولة الدفاع عن نفسها:

  • لستُ مجنونة!

ولتكررها ليلة الزواج على مسامع زوجها "الاستثنائي" الذي قال لها:

  • هل أنتِ فعلا مجنونة؟!
  • لستُ مجنونة!

ومرّت الليلة الأولى، والسنة الأولى، وعشر السنوات الأولى، وهي تتعايش مع زوجها المقعد، وحقيقة أنّه من ذوي الاحتياجات الخاصّة، بالكاد ينطق الكلمة تلو الأخرى، وتوارى والدها، وزوجته، وأشقّاؤها كل في عالمه، وحياته، بل أصبحت تتحدث بنفس طريقة زوجها!

 ونسيت الشهادة، والوظيفة التي كانت تحلم بها ولم تعثر عليها، والفلسفة، والكتب، والقراءة، وانغمست في تربية أطفالها، وفي البحث عن مصدر دخل إضافي يعينها على أعباء الحياة، فهي طاهية، وهي مبتكرة مشاريع مدرسية، وخبيرة تجميل بعد أن التحقت بدورة تجميل لتحول المجلس إلى كوافير للجارات المتكاسلات عن الذهاب إلى مراكز التجميل باهظة الثمن، والتي تقع في وسط المدينة، بطريقة تجعل الواحدة منهن تفضل البقاء في منزلها، ونسيان فكرة التجميل أساسا؛ لكنّ خلود ساعدت في إيجاد حلّ لأمثالهن، وكُنّ يكرمنها ويضعن ريالات إضافية لأطفالها، رأفة بها وبظروفها ووضعها المادي.

 ويوما ما سألتها إحدى الجارات عن دراستها، فاكتشفت أنّها حصلت على شهادة جامعية، لكنّها لم تحصل على وظيفة، وبأنّها منذ زمن كفّت عن المحاولة، فاقترحت عليها جارتها أن تعيد المحاولة مرّة أخرى، ربما حالفها الحظ؛ وتبرعت بتوصيلها إلى القوى العاملة، فابنتها ستذهب غدا ولا مانع من مرافقتها، وستهتم هي بالأولاد.

في اليوم التالي، ركبت السيارة مع ابنة الجيران؛ فاعترضت إحدى السيارات طريقهن وكادت تتسبب في حادث، فقالت ابنة الجيران ساخرة:

  • حمق هو انتظار تقدم الحمقى!
  • نيتشه!

(النهاية)

 

 

 

 

 

 

 

 

[1] نيتشه.

[2] نيتشه.

تعليق عبر الفيس بوك