الملائكة لا تنام بيننا!

 

د. سعيدة بنت خاطر الفارسية

ولدتْ بأجنحة ترفرف حول من يحتاج لعونها، كانت حياتها موزعة حول احتياجات الضعفاء لها لروحها الشفيف لقلبها الناصع البياض الذي انعكس على ابتسامتها النورانية التي لا تغيب وتسعد كل محزون؛ لأنها تنشر حولها هالة من الإيجابية مغلفة بالأنوار التي تشرح الصدور، منذ صغرها مختلفة عن إخوتها وعنا جميعًا، هكذا هي السماء أحياناً تكافئنا بقطعة منها سماوية التكوين ملائكية الأحاسيس، لتحلو بها الحياة وتزدان ونحبها، ونشرب نخب السعادة  لننتشي بوجودها معنا..

هكذا احتلت يسرا الفارسية، قلوب من عرفها وأخذ كل منِّا جزءًا من ذلك البهاء، جزءًا من ذلك النور الذي لا يخبو تألقه فينا، فنزداد اقترابًا منها وتزداد رفرفة أجنحتها التي تستطيل مع الأيام وتتسع لتشمل كل من يرغب بالاحتواء والحنان والمحبة.. إنها يسرا التي كانت مضيئة في كل فعل تقوم به، عندما كانت عضوة في إدارة نادي الطلبة بالقاهرة كانوا يتساءلون ما الذي يجعل هذه الفتاة مختلفة عنَّا؟ لماذا لا نرى إلا ابتسامتها المشعة وضحكتها التي تبدد ظلمة القلوب، ومرحها الذي يحلق بها بعيدا فتغدو فراشة  بألوان الطيف مهما تعكرتْ ظلمة الغيرة حولها، كانت تغرس بهجتها وتلون متاعب العمل والاجتهاد، وحدها تزهر الأرض من خطوها ويعبق التراب بروائح العطور، وحدها لاتعرف الحقد ولا البغض ولا الحسد ولا الظلام، وإن تطاول عليها مدتْ له أجنحة تلفه بهالات من الرحمة والتسامح والنقاء تحوله إلى غلائل من النور والبياض تدثر بها القلب وتزداد ملائكية النبض والشعور، لاتملك يسرا رد السواد بالسواد لأن أجنحة السماء لا تنبت إلا من النور والبهاء والنقاء.

عندما عادت إلى الوطن كانت مشاريعها مدّ  أجنحتها لتظلل على العجزة على المعاقين على الأيتام على الأرامل اللاتي سكرتْ من دموعهن الخدود وحفرت أودية الحزن على مشاعرهن التي ترملتْ معهن.

عندما حضرتُ معها أحد اللقاءات مع نساء يلبسن الأحزان حتى تخثرت في ملامح وجوههن كانت يسرا الفارسي تجلس معهن على الأرض لأنَّ إحداهن لا تحب جلسة الكراسي، قالت يسرا مراعاة لها: "ولا أنا"، جلستْ في حلقة ابتدأت بها وانتهتْ بي، وتحدثن مفرغات ما بهن من هموم تعكر أعظم الأنهار تدفقًا وجريانًا. وبعد الانتهاء جاء الرد من خلال تلك الابتسامة الممطرة حنانًا حبًا نقاءً دفئًا، وبها تحولت الابتسامة إلى سحابة مجنحة تملأ المكان وتطوف على الوجوه ترشها بنسائم الفرح الشهي مغتسلًا من شوائب الأكدار التي جئن بها، أنظارهن متعلقة بذلك الوجه الذي لايعرف إلا ابتسامة النور، كيف تشربت روحها كل هذه الأحزان ولم تزدد إلا بريقا ينشر شعاعاته على تلك الوجوه التي انتعشت به، حتى أصبحن صورا مكررة من ابتسامة يسرا وأصبحنا كأننا في حضرة البهاء والإشراق؟!

دعوة أخرى تأتيني لحضور لقاء الأيتام ولا أملك أن أرفض، فأنا مثلهم يتيمة الروح واحتاج لذلك الدفق السماوي من الانتعاش، طفل شبه مُعاق في حركة سيره ينفلتُ من يد أمه البديلة (كل أم لديها عشرة أو سبعة من الأبناء تهتم بطعامهم وملابسهم واستحمامهم والمذاكرة لهم)، هذا الطفل انفلت من أمه البديلة ورمى بنفسه في أحضان يسرا، تغيّر لون وجه الأم مُعتذرة، لا يريد أن يستحم كعادته، كررتْ أسفها مرة أخرى للأستاذة يسرا مديرة دار رعاية الطفولة والأمومة (دار الأيتام آنذاك)، قالت الأم البديلة: "هذا الولد يحب أن يظل هكذا معفن"، سحابة من الألم تعتصر الوجه البشوش، لكنها سرعان ما هربتْ عندما تبسمت يسرا وهي تحتضن الصغير تعال أشمك: ثم علقتْ "الله.. هذه رائحة المسك، هيا نقبل فيصل لنشم رائحة المسك يا أولادي"، تدافع الصغار وعلتْ كركرات ضحكهم حتى ارتفعتْ  للسقف وتراقصتْ هناك بهجة ملونة بالفرح والأغاريد، وتمدَّد الطفل منشرحًا فوق أمه يسرا تزداد كركراته كلما دغدغت جسده المبتهج.

قالت: "من سيستحم أول واحد بكره؟" نهض فيصل وبأعلى صوته صرخ: "أنا"، يصفق الصغار وهم يرددون "شاطر شاطر يا فيصل، شاطر شاطر يا فيصل".. هكذا علمتهم ماما يسرا كلما أحسن أحدهم العمل. كنتُ أشعر أنني في لوحة فنية متكاملة، أو عمل أوبرالي مُتقن بين الأم وأطفالها، عندما خرجتُ متعطرة ثملة مما رأيت، لحقتنا الأم البديلة: "أستاذة يسرا هذا الولد يتدلع ولا يسمع الكلام، ويجب أن تشدي عليه"، تهز يسرا رأسها وتبتسم "حاضر"... "ولكن رجاءً لا تقولي لأحد أولادك معفن؛ فالأم الحقيقية لا تصف صغارها بهكذا وصف".

ودعتُها وهمستُ لها هذه لا تصلح أمًّا، تتسع ابتسامة يسرا: "أعرف".. "لكنها تعتاش من هذا العمل بل إنها في أشد الاحتياج له، ونحاول إصلاحها قليلًا قليلًا". في طريقي أحادث نفسي يقولون تشبهني كثيرًا، وأنا أعلم أن يسرا لا تشبه أحدًا، هي نسيجٌ مختلف وحده.

في موعد آخر تهاتفني: "خالتي.. أرجو حضورك اليوم في منزلنا// لماذا؟// لأنه عيد ميلاد ولدي// من منهم؟// قالت: محمد// من محمد؟ ليس لديك ولدٌ بهذا الاسم// هذا ولدي من الدار".

تجري تشتري الهدايا، تجري لتأتي بالكيكة، تجري تلملم الحلويات والشيكولاتة التي تسعد الأطفال، تجري تحضر الرضعة لمحمد الصغير المُحتفَل به، تأتينا تتعثر بابتسامة الرضا والسعادة، تحمل طفلها المُعاق جدًا هذه المرة، تستقبل رفاقه أولادها من الدار ليغنوا له ويبتهجون معه، واحد يهز ثوبها "ماما أريد كيكة"، آخر: "ماما أريد لعبة"، ثالث: "أريد بالونة"، آخر "أريد آكل".. تلبي الطلبات بابتسامة عرضها اتساع السموات، إحداهن تسألها: "لماذا تصرفين أكثر من نصف راتبك على هذه  الدار"، وأنتِ لا تملكين دخلًا غيره؟! ضاحكة: "ربي سيعوضني أكثر".

عندما يغلبها النعاس بعد نهار مُفعم بالحركة والنشاط تلقي بجسدها في أي مكان يصادفها من البيت فوق الأريكة، فوق السجادة، أو فوق سريرها ذاك الذي لا يخلو من ملائكة صغار يتسلقون عمرها القصير، أتعجب من هؤلاء الذي يتكدسون تحت جناحها الظليل: ثلاثة أولادها، اثنتان بنات اختها واثنان من الدار، ينامون نوم الأقمار المضيئة المطمئنة، تحاوطهم بابتسامة الرضا والنور في غمرة النوم.

نعم هذا جسد يسرا، أما روحها فتتصعد كل يوم؛ حيث لقاء يليق بها هناك في الأعالي البعيدة، تنام في سريرها المفضض، تحوط بها ملائكة النور وتشحنها بما ستوزعه في الغد على المتعبين لتمسح عنهم وجع الإنسانية المعذبة.. نعم هذا جسد يسرا الذي نعرفه، لكنه خلوًا بدون يسرا، فالملائكة لا تنام بيننا أبدًا.

تعليق عبر الفيس بوك