من سار على الدرب وصل!

 

عبدالله الفارسي

 

منذ سنوات تعليمنا الأولى قالوا لنا "من جد وجد ومن زرع حصد ومن سار على الدرب وصل"، كبرنا بعد أن غرسنا هذه الكلمات العظيمة في صدورنا ونقشناها في كتبنا ودفاترنا وأرواحنا وحملناها على ظهورنا وركضنا بها سنوات طويلة ثقيلة ومؤلمة، ومع أننا شككنا في جوهرها أثناء السير والمشي والسقوط، ولم نذق طعمها ولم نستشعر نكهتها إلا أننا لقناها لأطفالنا، صرخنا في وجوههم في أول النهار، وهم ذاهبون إلى مدارسهم يحملون حقائبهم التي قصفت ظهورهم وقلنا لهم يا أولاد اسمعوا: من جد وجد، ومن زرع حصد، وفي المساء كنَّا نحتضنهم ونهمس في آذانهم الرقيقة الصغيرة قبل نومهم ونقول لهم يا أولاد اعلموا أنه: "من سار على الدرب وصل"

وحين كبرت عقولنا ونضجت أرواحنا بما يكفي لنفهم سخرية الحياة وسخفها وعبثها، اكتشفنا أنَّ هناك الغالبية العظمى من الذين لم يجتهدوا ولكنهم وجدوا ولم يزرعوا شيئاً ولكنهم حصدوا الكثير وامتلأت سلالهم بالخير الوفير وفاضت صناديقهم بالفواكه اللذيذة الطازجة، وهناك من لم يسر ولم يُرهق قدميه ولكنه وصل وحقق ونال وكسب وربح، والآن يسألني أبنائي: أبي لقد اجتهدنا ولم نجد شيئاً وركضنا حتى تقطعت أنفاسنا ولم نصل إلى غايتنا! فهل كنتم تكذبون علينا؟!

النموذج الأول: قبل فترة وجيزة، التقيت زميل طفولة ورفقة دراسة، أحد كبار الحمقى الذين عاشرتهم وعشت معهم وكم تمنيت لو أعطاني جزءًا من حماقته وبعضا من غبائه، حتى أصل إلى نصف ما وصل إليه وحققه، ولا أعلم حتى اللحظة لم منحتني الحياة كما وافرا من هذا الصنف الفريد من المعارف والأصدقاء؟!

حقيقة أنا لم أقابله منذ فترة طويلة إلا مرات قليلة جدا فقط كنت ألهث حين كان هو يُدخن ويضحك، كنت أركض لاهثًا مخرجًا لساني ككلب شريد حين كان هو يجمع ويحصد، ولكن في كل مرة كنت أراه فيها كان كما هو لم يتغير يشع الغباء من صدغيه وتتدفق الحماقة من عينيه ووجنتيه. لم أتتبع أخباره ولم أقرأ شيئًا عن إنجازاته وقفزاته ومعجزاته ولكن أخبروني بأنَّ هذا الأحمق الذي ذهب في سنة من السنوات إلى ولاية بانجرور الهندية ليقضي فيها شهرين ليتعلم اللغة الإنجليزية وحتى يتمكن من كتابة اسمه بشكل صحيح فقد ظل يكتبه بشكل خاطئ حتى سن متأخرة جدًا!!

الآن هو يملك شركة مُحترمة تستقطب مناقصات بعشرات الآلاف من الريالات، وبنى منزلين فخمين أحدهما في العاصمة بأكثر من نصف مليون ريال، وأضحى في محيطه الاجتماعي شخصية رفيعة ومهابة ومثيرة للإعجاب والتصفيق والتصفير. أعترف لكم بأنني لا أفهم شيئًا في فقهيات الأرزاق وأسرارها، لكن الذي أعرفه جيدًا أن صديقي الأحمق هذا لم يجد ولم يجتهد ولم يلهث في الركض ولم يغرس ولم يزرع ولم يسقِ ولم يحرث، لكنه جنى وحصد بشكل كبير ووصل بسهولة ويسر.

النموذج الثاني: كان زميل جامعة كان أفشلنا في دفعتنا بالجامعة، وتخرج بتقدير مقبول مع الرأفة. أخذ يتنقل في أكثر من وظيفة وكأنه يختار وينتقي ما يشاء من الوظائف، في سنته الثامنة التحق بشركة عظيمة ثم أصبح مديراً تنفيذياً في شركة أخرى غيرها وأصبح اسمه لامعاً يشار إليه بالبنان، قال لي بعض متابعي أخبار هؤلاء الخارقين وأصحاب المعجزات أن راتبه وصل إلى 14 ألف ريال وبونصه (الأرباح) السنوي يصل إلى 35 ألف ريال، ومنذ عشرين سنة لم يركب الطائرة إلا في درجات رجال الأعمال وكان يمد رجليه الطويلتين القبيحتين وينام قبل إقلاع الطائرة بدقائق ويشخر بطريقة مزعجة لا يمكن احتمالها.

النموذج الثالث: في العام 2016 كنت في ماليزيا ألهث من جامعة إلى جامعة أبحث عن قبول لدراسة الدكتوراه، وأنا أتسكع في السوق الصيني في كوالالمبور وقفت بجانبي سيارة توتوتا من نوع فان حديثة الطراز فنزل منها شاب وزوجته وثلاثة أطفال، فجأة سمعت أحدهم يناديني "أستاذ عبدالله"، اقترب مني وسلم عليَّ وابتسم قائلاً لي: هل عرفتني فابتسمت وقلت له: كيف أنسى ذلك الطالب الذي يجلس في آخر الصف وينام الثلاثة حصص الأولى. فضحك وقال: "ما شاء الله عليك أستاذي ذاكرتك قوية"، قلت له: هذه النعمة الوحيدة التي أتمتع بها في الحياة. فأخذ يُخبرني عن رحلته السياحية لأربع دول آسيوية، ثم ودعني ولحق بعائلته. عدت إلى فندقي التعيس، وفي وقت متأخر من المساء تواصلت بالواتساب مع زميل لي وسألته: هل تذكر الطالب فلان الفلاني؟  فقال لي: ذلك البليد الذي ينام الثلاثة حصص الأولى، قلت له: نعم، قال: ماذا به؟

قلت له: رأيته في كوالالمبور في حالة مرهفة جداً، فضحك زميلي وقال: أيها الأحمق ذلك البليد يملك اليوم أسطولاً من سيارات نقل البترول ويملك ثلاث محطات وقود. فسقط الهاتف من يدي، وفقدت وعيي حتى شروق الشمس، وفي الصباح قررت العودة وإلغاء فكرة دراسة الدكتواره نهائيًا.

إنها حكايات من عالم الأفلاك وأرقام من كواكب الخيال.

هناك قصص كثيرة جدا وغريبة جدا وأعتقد أن عند كل واحد منِّا قصة أحمق صعد القمة وحكاية فاشل ركب ظهر النجمة.. قصص صعود الحمقى والأغبياء ووصولهم إلى النجوم والكواكب كثيرة، وبالمقابل هناك آلاف وآلاف القصص المؤلمة والمحزنة لسقوط وفشل المثابرين والمجتهدين والكادحين والعصاميين، ووقوعهم بين الصخر واختفاءهم تحت الحفر.

كم يا تُرى عدد أولئك الذين تعبوا وزرعوا وغرسوا وسهروا،. ولم يحصلوا على شيء سوى الغم والهم والبؤس والحسرات؟ كم عدد المُحطمين والمكسورين والذين بترت أحلامهم وأحرقت أمنياتهم وضاع جدهم واجتهادهم؟!

سيقول لك المؤمنون الصالحون: هذه أرزاق يوزعها الرزّاق على من يشاء من عباده وتلك أقسام كتبها الله في الجبين على جبهة الجنين. بينما سيقول لك المنجمون وقراء الكفوف وضاربو الدفوف: هذه حظوظ وتلك نجوم وأفلاك.

وكما أسلفت أنا لا أفقه كثيراً في فلسفة المقسوم ومنطق المكتوب كما أنني جاهل تماماً بعلم الكواكب وأسرار النجوم، كل ما أعرفه ومتيقن منه تماماً الآن أنني نادم ندمًا فظيعاً على الزمن الطويل الذي بذلته في تلقين أبنائي وتعلميهم وتحفيظهم المقولة الرائعة: "من جد وجد ومن زرع حصد". كما أنني أعض أصابعي حسرة على ذلك الوقت الطويل القديم الذي كنت أنقش فيه في الصفحات الأولى من كتبي ودفاتري المدرسية المقولة الذهبية العظيمة: "من سار على الدرب وصل".