رجال الطين

فاطمة إسماعيل اليمانية

*********

هناكَ حيثُ التقاءُ الطينِ بالطينِ

وحيثُ لا شكّ طعم المجدِ يغريني

تقابلت فتيةٌ لله ما فعلــــــــــــوا

كأنّما خُلِقوا من صفوةِ الطيـــن!

"حمد الحارثي"

**********

انطلق سعد حاملا جاروفا صغيرا ليلتحق بعمّه وأبناء عمّه ومن معهم من الشباب المتطوعين لتنظيف البيوت من الوحل والطّين بعد الإعصار؛ لكنّه توقف حال سماع كلمة رجال، ونظر إليهم مستجديا:

  • أنا معكم!
  • أنت صغير يا سعد!

أشار إلى وجهه:

  • لدي شنب!

ضحك عمّه، وقال:

  • استئذن والدك أولا!

هرول إلى والده، وقال له بصوت مرتفع محاولا تقليد خشونة صوت الرجال:

  • سأذهب مع عمّي وأولاده.
  • ما زلت صغيرا!
  • أنظر لشاربي!

ضحك والده، ثمّ اتّجه لشقيقه ممسكا يد سعد، وقال له:

  • خذه معك، وسألحق بكم!

وقال لسعد:

  • كُنْ حذرا، ولا تركض! امْشِ بتأنٍّ حتّى لا تنزلق!

فقال بصوت أقرب للصراخ:

  • أنا رجل!

وركض مسرعا تجاه البيك اب، وقفز على الحاجز قاصدا الجلوس في الخلف، لكنّ حركة الشجاعة التي أراد أن يتقنها خذلته؛ فارتطم رأسه بأرضية البيك اب، فرفعه أحد أبناء عمّه كاتما ضحكته.

وعند وصلوهم؛ تمّ توزيع المّهام؛ حسب البيوت ومساحتها ونسبة الأضرار فيها، وكان سعد في فريق عمّه، حيث أوكلت لهم مهمة إخراج الطين، وبدأوا بمنزل عائلة سعد.

فاقترب منه عمّه وقال له:

  • مهمّتنا نزع الطين من أرضية الغرف، ووضعه في العربة الموضوعة أمام باب كل غرفة؛ كُنْ حذرا أثناء المشي، وتذكر بأنّك....

فقال سعد ضاربا بقبضة يده على صدره مقلدا مشهدا رآه في أحد أفلام الآكشن:

  • رجل!
  • والنعم!

فأسرع للدخول إلى المنزل؛ لكنّه تزحلق وتلطّخ بالطين، فسمع صوت عمّه متسائلا:

  • هل تأذّيت يا سعد؟

لم يرد؛ بل لملم نفسه وانتشل الجاروف من الوحل، وأخذ يمشي ببطء وحَذَر حتّى لا ينزلق ثانية.

وقف على باب غرفته، وأخذ يتأملّ الغرفة الخاوية، والأرض المغطّاة بالوحل والطين، إذ لم يتبقَ إلّا مرآة معلّقة نسيتها رياح الإعصار!

اقترب من المرآة ومرّر يده عليها لمسح الغبار، لكنّه رسم مزيدا من الوحل بيديه المتّسختين جرّاء سقوطه! رغم ذلك تلّصص على وجهه في المرآة باحثا عن ملامح الرجال في وجهه الطفولي.. وفرح حالما وجد خطّا صغيرا يقسم انعكاس صورته إلى نصفين..

وقف على أطراف أصابعه ليرفع قامته؛ إلى أن تمكن من ضبط انعكاس صورته مع الخطّ العرضي في المرأة، فأصبح الخطّ أسفل أنفه وأعلى شفتيه، وقال فرحا:

  • لديّ شنب!

حاول القفز للتعبير عن فرحته؛ لكنّه انزلق على الأرض اللّزجة.. ثم نهض متلّصصا على الباب خشية أن يراه أحدّ الموجودين في المنزل وهو يسقط:

  • للمرة الثالثة!

حدّق في المكان، ومن أين سيبدأ؟ فهداه عقله إلى الجهة اليسرى للغرفة مكان سريره سابقا!

وفعلا أخذ يجرف الطين، ويضعه في العربة..

كان الطين الّلدن ثقيلا، لكنّه لن يستسلم، يجب إثبات شجاعته!

وبعد مرور نصف ساعة وقف والده على باب الغرفة، وسأله:

  • هل تحتاج إلى مساعدة؟!

ضحك ساخرا:

  • مساعدة؟ هه!
  • عاشَ البطل!

شعر بالزهو، ورفع أحد حاجبيه؛ وقال لوالده بلهجة جادّة:

  • لا تشغلني يا والدي!

فابتعد الوالد قاصدا شقيقه، وضاحكا من حماس سعد رغم شعوره بالشفقة عليه، وشكّه في أنّه سيتمكن من إزالة الطين عن أرضية الغرفة الواسعة، إلّا أنّه سيتركه قليلا؛ ويعود لاحقا لمساعدته.

مرّت ساعة.. كان سعد قد تمكن من نزع مساحة مترين من الطين، وبدأ لون البلاط في الظهور؛ فشعر بارتياح شديد أنساه الإعياء، والألم الذي اعترى ذراعه الأيمن، وأعلى كتفه، وأسفل رقبته!

وسمع صوت عمّه منبها حتّى يتناول قنينة ماء:

  • سعد!

فحاول التقاطها بحركة السوبرمان التي ترافقه في مشيته وأحلامه، وفعلا نطّ إلى الأعلى لالتقاطها، لكنّه تزحلق، وسقط على الأرض:

  • للمرة الرابعة!

وهذه المرّة على بطنه، فلم يقاوم عمّه الضحك، واختلطت دموع سعد بقهقهة مصطنعة خجلا ومكابرة؛ فذهب إليه عمّه، وأجلسه، ثمّ جلس قربه، ومسدّ ذراعه، وعنقه، ويديه؛ فشعر سعد بانتعاش يسري في أوردته، وفتح له قنينة الماء؛ ليشرب، وقال له:

  • استرح يا بطل، سأنهي الغرفة المجاورة وسأعود لمساعدتك!
  • حسنا!

غادر عمّه الغرفة، لكنّ سعد أسرع لالتقاط الجاروف لإكمال مهمّته قبل عودة عمّه أو والده؛ لأنّه مصرّ على تنظيف غرفته بنفسه، وأخذ يعمل بهمة ونشاط، وازدادت رقعة البلاط الأبيض في المكان..

وتذكر سعد مكان سريره، الذي لم يكن يرق له أبدا! وها هو الآن في غرفة بلا سرير ولا أثاث! وربما شاركه الإعصار رأيه في سوء مكان السرير، فحمل السرير والخزانة والطاولة بعيدا؛ ليعيد ترتيب غرفته من جديد!

  • ربما!
  • ربما أنهى الإعصار الكثير من الأمور العالقة! وحسم الجدل حول بعض القضايا المصيرية المؤجلة! وأعاد ترتيب أشياء كثيرة لم تكن ترق للبعض!

كما سيعيد سعد ترتيب غرفته على  ذوقه! دون تدخل من أحد! أيّ أحد!

وتذكر صراعه المستمر مع أمّه حين كان يرغب في تغيير مكان السرير، وأن يضعه أسفل النافذة، حتّى يعلّق ستارة عليها رسما لسوبرمان!

لكنّها رفضت تعليق رسومات سوبرمان، أو باتمان، أو بطيخ!

هكذا قالت له:

  • بلا سوبرمان، بلا بطيخ!
  • لكنّ البطيخ لا يعلق!
  • البطيخ أفضل من تعليق الأصنام، والأرواح!
  • سوبرمان، ليس صنما! ليس روحا! إنّه رسم!

صمتت الأم، وعلّقت ستارة فيروزية اللون سادة! واختارت أسرّة وخزانة باللون الأبيض السادة!

وكان يدخل غرفته التي أسماها المستشفى يوميا وقت النوم فقط! مجبرا على تحمّل ضجّة البياض التي تتلف أعصابه، فبلاط الأرضية باللوّن الأبيض! وخشب الأثاث أبيض! والطاولة بيضاء، وسيراميك الحمام أبيض في أبيض!

لا شيء يكسر موت البياض عدا ستارة شاحبة!

ويوما ما قال لأمّه:

  • هل هذا ما تسمينه تنسيق؟!
  • أعجبك تنسيقي يا سعد؟!
  • الجنّة تحت أقدام الأمّهات!

قبلته على جبينه، وقالت له ولشقيقه علاء، اذهبا للنوم في غرفتكما الجديدة! فأسرع علاء إلى السرير الموضوع أسفل النافذة، بينما كان حظّ سعد أن يكون سريره قرب الجدار!

لذلك بحث في صندوق ألعابه عن رشوة لعلاء حتّى يغير رأيه؛ فأخرج دمية مصغرة لسوبرمان، وقال له:

  • انتقل مكاني!
  • لا أريد أصناما!
  • لعبة! لعبة!
  • أمّي تسميها أصناما!

فخرج باحثا عن أمّه، ورآها تتحدث في الهاتف مع شقيقتها عن تجديد أثاث المنزل، وكيف أنّ غرفة الأولاد أصبحت رائعة!

فقال سعد متذمرا:

  • ليست رائعة، وسوبرمان ليس صنما!

حدجته بنظرة غاضبة، وأشارت ليعود إلى غرفته؛ فعاد متأفّفا وجلس قرب صندوق الألعاب مرّة أخرى، يبحث عن لعبة ثانية ربما تكون مناسبة وتقنع علاء بتغيير السرير؛ لكنّ جميع الألعاب التي كان علاء يقاتله بسببها؛ أصبحت غير صالحة للرشوة، وأخيرا وجد علاء شيئا يلوي به عنق سعد!

ولو لم يصارحه سعد برغبته في التبديل؛ لكان ترك السرير، فهو من النوع الذي يخاف من النوافذ، والستائر؛ لأنّها في ذهنه معبر اللصّوص والأشباح، لكنّ استعجال سعد جعلت علاء يُصِرّ على البقاءِ في سريره، فقال له سعد قبل النوم وبعد إطفاء الإضاءة:

  • رأيت فيلما مخيفا عن شبح يدخل الغرف من النافذة؟!
  • الأشباح تدخل من الجدران أيضا؟!
  • من النوافذ أسرع؟!
  • هي تخترق المكان، حتّى لو كان الجدار من حديد!
  • لكنّي رأيت فلما يصور دخول شبح ضخم بأسنان طويلة ويفترس الولد النائم على السرير قرب النافذة!
  • وأنا رأيت فلما لشبح يفترس ولدا نائما على السرير المركون قرب الجدار!

سمعا صوت أشياء تسقط في الخارج، وصراخ قطّين يتعاركان كأنّ بينهما ثأرا! فشعرا بالخوف والرعب، وخرجا مرعوبين إلى خارج الغرفة، وباتا ليلتها في غرفة والديهما من شدّة الخوف!

وهذا الشعور رافقهما طويلا، فظلّا أسبوعا كاملا يرفضان المبيت في الغرفة، إلى أن انتقل والدهما للمبيت معهما؛ حتّى تلاشى الخوف والرعب، وكان والدهما يقول لهما:

  • أنتما رجلان! اتركا الخوف للأطفال!

وأخذا يتراشقان التّهم، فكل واحد منهما يصف الآخر بالخوف والجبن، وبأنّه شجاع وبطل!

لكنّ سعد أثبت اليوم بطولته، وهو يساعد والده وأعمامه وشباب العائلة في هذه المهمّة الصعبة، وكان أول المتحمّسين، رغم تنبيهات أمّه:

  • لا تعد إليّ برجل أو يد مكسورة، انتبه لنفسك!
  • أنا رجل!
  • في حفظ الله ورعايته.

مرّ نصف اليوم في التنظيف، وانشغل والده بتنظيف الساحة مع بعض الشباب المتطوعين، ثمّ تذكر سعد؛ فدخل إلى المنزل لرؤيته، فوجده متمددا على الأرض غارقا في سبات عميق من شدّة الإعياء، وقد أكمل نزع الطين بأكمله من أرضية غرفته!

فاتّجه له وحمله بين ذراعيه قاصدا السيارة لإعادته إلى المنزل، فانتبه الموجودون لمنظر سعد الطفل الذي لم يتجاوز السادسة من عمره، نائما منهكا من شدّة التعب والإعياء، ملطّخا بالطين، فقال أحدهم مشيرا له:

  • هذا هو البطل الحقيقي! هذا رجل الطين!

فاستيقظ على صوت تصفيق حار؛ وخبأ وجهه في حضن والده خجلا.

 

 

تعليق عبر الفيس بوك