ملحمة يحق للتاريخ تسطيرها

 

د. يحيى النهدي **

جاء "شاهين" مزمجرًا، فقضى على ما قضى، وخلَّف قصصًا مُؤلمةً لن يتسع المقام لسردها، ولم أشأ من كتابة هذا المقال تسطير الحزن؛ لأنَّ القلوب تشبعت بالأحزان وهي في حاجة إلى الترويح، فالجزء المشرق من "شاهين" قد أتى، وعساه قد يُخفف عن ألم من نكب خلال هذه المحنة.

لقد تجلَّت اللحمة الوطنية التي تشكلت بعد إعصار شاهين في أنصعِ صورها؛ فقد هبَّ أبناء عُمان من جنوبها إلى شمالها ومن شرقها إلى غربها مولين وجهتهم إلى باطنة الخير، الباطنة المُتضرر أهلها، فتوالت القوافل أسرابًا، وتكونت جموع لا تحصى من البشر، صغارًا وكبارًا، رجالًا ونساءً، شيبًا وشبانًا، تلاشت خلالها الألقاب والرتب، التفوا جميعًا حول الأضرار، مُشمّرين عن سواعدهم بلا كلل ولا ملل آملين أن يُعيدوا البسمة إلى كل من تضرر وكل من عانى.

المواقف كثيرة لا تُعد ولا تُحصى، فكلنا شاهدنا الرجل الكهل المُعاق الذي يستند على عكازيه وكأن شبابه قد عاد إليه، يعمل بلا هوادة. وهنا أذكرُ موقفًا آخر لصديق لي شارك هو وعائلته ليوم كامل فساهموا بما استطاعوا لرفع معاناة إخوانهم وأهلهم، وعندما سألته ما هو شعورك بعد المشاركة، قال لي "لو كانت الظروف تسمح لخيمنا وسطهم حتى تعود حياتهم طبيعية".

سألت آخر لكن هذه المرة ممن عاشوا رعب شاهين، أردت الاطمئنان عليه، وسؤاله عن شعوره وهو يشاهد إخوانه العمانيين يتوافدون عليهم من كل حدب وصوب، فأجابني "الصراحة نبكي ليس على ما فقدنا لكننا نبكي فرحاً لما نشاهد، فالعمانيون من أقصى عمان إلى أقصاها يتوافدون إلينا ويعملون ليل نهار هم وعوائلهم ....."، وأكمل قائلًا "شعور غريب تدمع العين فرحًا وفخرًا وعزًا ويعجز اللسان عن الوصف لجلال الموقف؛ المتطوعون يدخلون البيوت ينظفونها وفي ساعات يرجع البيت كما كان قبل الإعصار"، واختتم حديثه قائلًا "الحمدلله من قبل ومن بعد الحمدلله دائمًا وأبدًا". هذا الصاحب تدمع عينه فرحًا وقد دمعت قبلها بأيام عيناه حزنًا على خسارة ما كان يؤويه هو وعائلته.

الجميع سطّر عبارات الإشادة بالشعب العماني ولحمته الوطنية، فأعجبني ما قاله مقدم برنامج "فوق السلطة" على قناة الجزيرة القطرية الأستاذ نزيه الأحدب واصفًا تكاتف أبناء عُمان قائلا "كذلك لا يضيع وطن شعبه مُجاهد، كذلك لا يضيع وطن شعبه مُتضامن كعُمان، فقد نزلت أضرار إعصار شاهين على السلطنة أخف من المتوقع برحمة الله أولاً ثم بتضامن ووعي العمانيين الذين ترجموا بالفعل قبل القول نشيدهم الوطني: يا عمان نحن من عهد النبي أوفياء من كرام العرب". فعلًا، نحن أبناء عُمان سنبقى أوفياء لهذا الوطن وترابه، أوفياء لقيادته، وإن شاء الله سنقف متكاتفين مترابطين يداً بيد حتى ولو باعدت بيننا المسافات، فسنقلص هذه المسافات عندما تدعو الحاجة إلى ذلك، وما يحدث في باطنتنا الحبيبة خير مثال، إذ تقرب الجنوب من الشمال والشرق من الغرب.

وبعد إعصار شاهين، والملحمة التي سطَّرها شعب عُمان والتي أثبتت أن هذا الشعب هو مضرب مثل لكل الشعوب، أفعاله تسبق أقواله، مشحون بقيم المحبة والوئام، شعارهم دائمًا حديث رسول الله عليه أفضل التسليم "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد إذا أشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى"، أن تكون لهذه الملحمة مكان في المناهج التعليمية، فهي ملحمة يحق لها أن لا تنسى؛ بل يجب أن تبقى في الذاكرة يتوارثها الأجيال، وهنا يأتي دور مؤسسات التعليم، فهذه المؤسسات هي تربوية قبل أن تكون تعليمية، وفي نظري مثل هذه المواقف التي تتجلى فيها القيم بكل معانيها يجب أن تدرس وأن تغرس في عقول الناشئة وأن تترجم إلى قصص تروى لهم في المناهج، فالوقائع دائماً أكثر ثباتاً في ذاكرة الأفراد، وملحمة العمانيين لمواجهة شاهين إحدى هذه الوقائع التي هي حق للأجيال القادمة معرفتها.

** رئيس الدراسات الإدارية والمالية بكلية الزهراء

تعليق عبر الفيس بوك