د. خميس البوسعيدي
باحث تربوي بإدارة التربية والتعليم بالسويق
إنَّ المتتبع لما أفرزته الحالة المدارية "شاهين" في السلطنة ليعد مثار فخر واعتزاز على مختلف الأصعدة، وعلى جميع المستويات المؤسسية والشعبية؛ حيث سطر العمانيون ملحمة تأريخية بامتياز، أشاد بها الخارج قبل الداخل، وأصبحت تجربة ملهمة وتدرس كخبرات تراكمية اكتسبها العمانيون على مر التأريخ القديم والمعاصر، ويمكن محاكاتها لدى الشعوب والدول التي تمر بهكذا ظروف وحالات مدارية متكررة.
لقد أثبتت التجربة العمانية الفذة بما لا يدع مجالاً للشك أن هذا الوطن الشامخ من جنوبه لشماله، ومن شرقه لغربه، متفرد بالكثير من الهبات والمنح الربانية والصفات الإنسانية التي ارتسمت وانعكست على المواطن الصالح الذي يعيش على ترابه، معطاء كريم في كنفه وجلبابه، كيف لا ونحن نرى هذه اللحمة الوطنية تتجلى في أبهى صورها وحللها، وتتحفنا بأنفس ما عندها من مكنونات الحب والعطاء، والخير والوفاء، وما تزيدنا هذه الظروف والحالات الاستثنائية إلا صلابة وتجلداً في كل مرة، يزيد مستوى الإعصار ومعه تزيد الحالة العُمانية في تفردها، وصبرها وتكاتفها وتعاضدها وتضحيتها، واعتمادها على نفسها، وعلى سواعد أبنائها جيلاً بعد جيل. لربما كان تأثير شاهين الأقوى بين أقرانه، وذلك لطول البقعة الجغرافية التي احتلها في مروره وعبوره، بحرا وبرا، ولكن وبالتوازي كان هذا الشعب المعطاء على قدر المسؤولية فهبَّ هبة رجل واحد
لنجدة أخيه المُسلم، واستجابة لنداء الوطن وترابه، من جميع المحافظات إلى الباطنة جنوبها وشمالها، تقاطرت الحشود في مشهد مهيب وعرس وطني بهيج، عزَّ مثيله في الأرجاء، كل يحمل معه أثمن ما يملك وينطلق نحو هدفه المنشود، وغايته السامية لنجدة إخوانه، فكان وقع ذلك عظيمًا على الولايات المتضررة، حيث طابت لتطبيبهم الجروح، وهدأت على أثرهم بعد العاصفة من الروع النفوس، وتاقت للقاء بهم القلوب فرحا واستبشارا بعد العبوس، كيف لا وقد قالها سيد البشر والمرسلين (قال رسول الله ﷺ: مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى).
هكذا إذاً تداعى جسد عُمان للعضو الجنوبي والشمالي برًا وبحرًا وجوًا في مشهد شارك فيه الكبير والصغير، الطفل والكهل، الرجال والنساء، والقصص التي تروى عن ليلة الإعصار، لهي حقاً جديرة بالتوقف والاعتبار، وأخذ الحيطة والتزود بها لما بعدها، ولربما هنا يكون قد اتضح لكل ذي لب ضآلة الدنيا وصغر شأنها، فلولا لطف الخالق عزّ وجلّ على أرض هذا الوطن والإنسان، لذهب بنا هذا الطوفان في ثوانٍ، أو لسبح بنا إلى الفيافي والخلجان، كما آن للمؤسسات والأفراد وذوي الشأن، مراجعة الخطط والأولويات، وإعادة توزيع الأراضي والمخططات، والسدود والطرقات بعيداً عن الأودية والفيضانات. ومن أكثر المشاهد نبلاً خلال هذه الحالة المدارية حب إنسان هذا الوطن لأخيه الإنسان، فلقد شهدنا قوافل إغاثة، وأخرى تغذية وكساء، وثالثة أجهزة وأثاثاً، ورابعة ماء ودواء، ودولة قوية من خلفهم جميعًا، تحثهم نحو النهوض والبناء، وقيادة حكيمة معهم في الشدة والرخاء.. كم هي جميلة تلك الصورة التي رسمها ذلك الشيخ الوقور القادم من الجبل، والأم الرؤوم التي ترتب حقائب بديلة بكل مستلزماتها وهي تبتسم لطلاب المدارس بلا كلل ولا ملل، والناشط المغوار القادم من ظفار في مشهد يبعث في النفوس الأمل، وماجدة أتت بمال للحج كانت تدخره وقالت هو لكم خذوه على عجل، والرجل الهصور وفلذة كبده وهم يضعون أسلحتهم في استراحة محارب بعد العمل، والمواكب المهيبة من مسندم للداخلية والشرقية، ومن ظفار المجد والوسطى البهية والواعدة عبري، وكل عُمان للباطنة مراكب تسري، فنهر الخير قد غطى على ما تركه شاهين من أثر وامتطى صهوة جواد العمل والبناء.
ومن الدروس التي يجب أن نختم بها في هذا المقام ضرورة رد الجميل لكل من ساهم في رسم وتلوين هذه اللوحة الجميلة والمشرقة لعُمان الحضارة والتأريخ، ونخص بالذكر أصحاب المهن والحرف والمؤسسات الصغيرة والمتوسطة، والذين ما فتئوا يقدمون كل ما لديهم، وكل ما يستطيعون بذله لخدمة إخوانهم في الأماكن المتضررة كل حسب اختصاصه وإمكاناته. لذا بات لزاماً علينا بعد أن نتجاوز آثار هذا الإعصار والتوجه إلى كل الزوايا والأمكنة التي تفوح منها رائحة الوطن، علينا أن نتوجه إلى بقالة العُماني، ومراكز التسوق التي يُديرها العماني، إلى كهربائي السيارات العُماني، ومحلات بيع المواد الصحية والكهربائية التي تدار بأيادٍ وطنية عُمانية خالصة، وغيرها من المهن والحرف التي لا يتسع المجال لذكرها، كما لا يفوتنا ذكر الشباب عماد الأوطان العاملين منهم والباحثين فلقد أثبتوا جميعا أن الوطن لا ينهض إلا بسواعد أبنائه، وآن الأوان للجهات المسؤولة أن تستثمر هذه الطاقات التي تعانق بهمتها السحاب في أسرع وقت ممكن، وتمكينها ومنحها الثقة والإقدام لتساهم بدورها في بناء الوطن ونهضته ورفعته.
شكرًا من القلب لقوات السلطان المسلحة الباسلة بمختلف تشكيلاتها فلقد أثبتت أنها على الوعد دائماً، ومع الشعب في الذود عنه، وعن الوطن ومكتسباته، وشكرا ثم شكراً للعين الساهرة شرطة عمان السلطانية التي حرست بعون الله الوطن بكل أمانة وإخلاص وتفانٍ، شكراً للقطاع المدني والعسكري، شكراً لكل عُماني على هذه الأرض الطيبة الطاهرة التي لا تنبت إلا طيباً، شكراً للإخوة الأشقاء والمقيمين الذين شاركونا البلاء والابتلاء، وكانوا معنا في السراء والضراء، حفظ الله عُمان من كل سوء ومكروه، وسائر بلاد المسلمين.