ماذا لو؟!

هند الحمداني

جعل الله من الماء كل شيء حي، جعل منه كل وجه يدعو للحياة، وكل روح تتشبث بالبقاء وكل نفس تشق طريقها إلى صدر الكون، فكان الماء مثالا أزليا على الحياة والأمل والوجود.

وهنا أتذكر مقولة جدي العزيز، كان يقول دائمًا: "إن الماء المنسكب من الإناء لا يُمكن أن يعود كما كان لأنه عندما يسقط على الأرض قد يفقد نقاءه أو يجف" كناية عن العلاقات الإنسانية التي إذا انقطعت لا يُمكن لها أن تلتئم من جديد، والأخطاء التي لا يُمكن للمجتمع والأفراد أو حتى النفس أن تغفرها.

كانت مقولة جدي تخيفني كثيرًا عندما كنت طفلة، تشعرني أنني يجب أن أكون مثالية دائماً حتى لا أخسر من حولي وأشيائي للأبد، كبرت وأنا أعتقد أن من يخطئ مرة واحدة قد يخسر أمدا، وأن حياة الإنسان يجب أن تقاس بالمسطرة والفرجار، وأي خطأ صغير قد يعزلك وحيدا إلى الأبد في زاوية منفردة، لطالما سمعته يقول إن كوب الزجاج الشفاف الرقيق إذا سقط وانكسر لا يُمكن أن يلتئم أو أن يرمم ويملؤه الماء مجددا، لكم أن تتخيلوا مشاعر سلبية بذلك الحجم الهائل تتدفق إلى أعماق طفلة صغيرة، يا ترى كيف سيبدو حالها بعد حين؟! كيف ستمتلك القدرة على خوض أي تجربة وهي تخشى الفشل الذي لا يمكن للكون أن يغفره؟! كيف ستملك القدرة على المبادرة بشيء جديد لم يسبقها إليه أحد؟!

الأخطاء التي لا تغتفر والآثام التي تقود إلى الموت والفشل الذي يصبح برجا يشير إليه الجميع بسخرية وازدراء، كلها أنماط مختلفة تشير إلى ذات المفهوم ألا وهو الخوف من التجربة، الخوف من الفشل، الخوف من ألا تكون مثاليا يشار إليك بالبنان.

ولكن ماذا لو؟ ماذا لو كانت الحياة غير مثالية مثلما أخبرونا، ماذا لو كان الفشل جزءًا من النجاح وطريقا له، أليس الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: "كل ابن آدم خطاء وخير الخطاءين التوابون"، إذاً نحن البشر مفطورون على التقصير والخطأ وهذه سنة الله في أنفسنا وفي الكون.

يقول عبد الغني النابلسي:

يا رب عبد قد بسط

كف التوسل إذ سقط

فعليه إن عد الغلط

من ذا الذي ما ساء قط

ومن له الحسنى فقط

إذًا قد يلتئم الجرح ويرمم الكوب المُنكسر ويعود أجمل مما كان، وذلك الماء المنسكب الذي لطالما حكى عنه جدي الراحل قد لا يعود مجددا كما كان، لكنه قد يسقي الأرض وتتشربه التربة، فينبت منه زرع أخضر ويثمر بكل ألوان الحياة.

عرفت الآن كم أن جدي كان رجلًا مسكينًا، قضى معظم حياته خائفًا، كان يفعل كل شيء وأي شيء لا يرغب فيه حقًا، لكي يُصبح مقبولًا في مجتمعه، مثاليًا في أعين أبناء عشيرته، ومات ولم يستشعر قط ذلك الشعور الحي الذي يمكن أن نعيشه بعد تجربة صادقه لأمر ما نرغب به أو حلم لطالما كان يعصف بدواخلنا أو طموح متفرد يُعبِّر عن ذواتنا بكل عفوية وبساطة، أو حتى خطأ ما اقترفناه بقصد أو دون قصد.

ماذا لو؟ ماذا لو كان جدي ذلك الرجل الرائع ذو الهيبة والشخصية الفريدة؟ ماذا لو كان غير مثاليٍّ ليوم واحد، يا ترى ما الذي كان أنجزه؟!

تعليق عبر الفيس بوك