الرياح العاتية

 

سارة البريكية

sara_albreiki@hotmail.com

 

تهب الرياح من الشمال، فيمطر الشوق من الجنوب ويزداد الحنين من الغرب ويمر في دوامة الصمت لينفرد بإحساس المسافرين وحقائبهم المحملة بشيء من الجمال وشيء من الذكريات التي لن ينسوها مهما طال بهم الوقت، فالسفر متعة لا يحس بها إلا من يعيش فيها ليعبر المحيطات والأنهار والأودية والجبال الشاهقة والكهوف والمرافي وابتسامة مرسومة على وجهه؛ لإحساسه الغريب بأنه ربما لن تسنح له الفرصة بزيارة المكان مرة أخرى.

ربما يتسلل الحزن إلى وجدانه وروحه المسكونة بعبق المحطات الجميلة ويحاكي نفسه أنه لابُد من العودة إلى ذلك المكان الجميل مرات ومرات فيحن لذلك الكرسي المقابل للبحر ولتلك الورود التي يعبق من شذاها العطر ولرائحة الخبز والكعك ولليل الأنيق وتنسيق ملابسه إلى حد يشبه أناقة العريس فهو منشغل بنفسه ولا يهمه العابرون، كان كل همه أناقته ليصبح المكان أجمل به وبعطره وبذكراه وهاتفه المحمول الذي لم يُفارقه ليلتقط به أجمل المشاهد وأجمل الصور ليشارك الآخرين بها ليتحسسوا جمال ذلك المكان وتحملهم الأماني لزيارة قريبة لنفس الأماكن بترقب وشغف وانتظار، وعندما يعود لارضه يحمل في يديه بعضا من المقتنيات لمن هم قريبون من قلبه يحمل رائحة سفره وترحاله وبعضاً من ذكرياته المملوءة بالسعادة.

نعم.. فالسفر سعادة وأقصد هنا سفر مرغوب لمقصد التنزه وقضاء العطلات ولا أقصد السفر المحتم علينا كسفر العمل الذي يطول سنوات ويحمل في طياته غصصا في القلب وبعدا عن الأهل وشوقا للأصحاب ورحيلا مؤلما وحزنا موجعا وانتظارا وقت العودة هل سيأتي أو سنموت بغربتنا وتحيط بنا تربة لا تشبه تربة وطننا؛ فلطالما تحدث هذه الأخيرة.. آهٍ أيُّها الشوق الذي يتسلل في روحي وقلبي وعينيَّ، وآهٍ أيها البعد كم أنت مؤلم؟ وإنني لا أريد أن أعيش تجربة أمي في العمل خارج البلاد، فوطني أحبه وهو غالٍ على قلبي، وكنت وما زلت أقول إنني أحب وطني كثيرا، وأتمنى أن أعمل وأعيش على ترابه وأدفن فيه، وأن لا أتغرب بعيداً عنه، لكن الرياح العاتية تجبرنا أحياناً على قبول بعض الخيارات التي من شأنها التحسين في مستوى المعيشة التي نعيشها، فنحن نحتاج لأشياء كثيرة؛ لكي نعيش بسلام، ولا نحتاج أن نسأل الآخرين- أعطونا أو منعونا.

بلادي يا بلادي.. كم أحتاج أن أتنفس هواك طويلا، فأنتِ التي أحب وأنتِ التي أشتاق وأنتِ التي أتوق إليكِ، رغم كل شيء.. قد يطول السفر وقد لا تعود السفينة في كل مرة، ربما تقلبها الرياح، وربما لا تنجو هذه المرة، فليس "كل مرة تسلم الجرة".

يا إلهي!! تراودني أفكار لم تكن يومًا تمرُّ على بالي، وأصبحت أتابع مقاطع رحلة الموت، وكيف تكون الليلة الأولى، وهذيان من نوع آخر، ويشدني الحنين لأوَّل قصة قصيرة كتبتها ونشرت في الجريدة (انتظار دقات قلب مكسورة).. لقد مرَّت سنوات طويلة ولم أكن أعلم وقتها أنها ستمر 17 عامًا، وأنا بدون وظيفة، وأن الله لم يكتب لي ذلك وربما يخبىء لي الأجمل والأفضل، فأنت تريد وأنا أريد والله يفعل ما يريد، وطريق السفر الذي حلمت به قد يكون متعبا وطويلا لي، والنهايات الجميلة قد كتبت في اللوح المحفوظ؛ فالعبرة بالنهاية، أما البدايات فهي الأخرى عناوين أخرى تحتاج لعناوين مغايرة.

ستمُر الرياح العاتية وستعبر المحيطات ولن تغرق السفينة وستحقق نجاحات كبيرة جدًا وسيستمر السفر.