رابطة دم!

فاطمة إسماعيل اليمانية

 

"الصمتُ ليس فارغا، الصمتُ مليء بالأجوبة" ألدوس هكسلي.

***

لمحت شقيقها وزوجته وأطفاله يهمّون للخروج.. وتمنّت لو يقول لها تعالي؛ بل تخيلت ذلك؛ فأسرعت لترتدي عباءتها القديمة، لكنّ زوجته أشاحت وجهها، وحدجته بنظرة غاضبة؛ فقال لها:

  • عودي للداخل..

فعادت وخلعت عباءتها وأمّها تنظر إليها:

  • لم يأخذوكِ معهم؟!
  • قال لي.. عودي للداخل!

نكّسَت أمّها رأسها.. ثم قالت مواسية:

  • أعطني الهاتف.. سأخبر شقيقتك ربّما تبرعت بأخذكِ إلى مكان ما!

جلست تحدّق في السقف.. وغطّت وجهها.. ودخلت في نوم عميق!

شيء ما أصابها بفتور ووهن.. وتمّ تشخيصها بأنّها مصابة بمرض نفسي.. بالفصام! فأثّرت بي كمّادة للكتابة؛ خاصّة أنّني قضيتُ عاما كاملا أشاهدها وهي تقطع الطريق يوميا من منزل شقيقها الكبير.. إلى منزل شقيقها الصغير!

كما أنّني أدرك جيدا معنى الشعور بالقرف من الحياة.. والضجر.. وأن تعيش على ظهر الأرض كمن يتنقل على ظهر حمار حاملا رحله.. وقربة ماء مثقوبة!

  • قالت لهم مرار:
  • تبّا لكم..

وستعيدها للمرّة الألف، حين تنكر معظمهم لصلة الدم والقربى، وأصبحت الزوجة الآمر الناهي وبصرخة منها تزلزل وهم الرجولة الذي يدّعون!

  • تبّا لكم!

لكنّها تعرف جيدا أنّ هذه الدنيا الموزعة على حظوظ وأرزاق، أو قضاء وقدر، أو ابتلاء.. تجيد جيدا التنكيل بالمستضعفات في هذه الحياة..

ولأنّها اشتهت يوما ما شيئا لم يرقُ لزوجته التي لا تأكله.. غَيّر اتّجاه الطريق ليعيدها إلى المنزل وقال لها:

  • انزلي!

كانت تتجاوز الخامسة والثلاثين.. عاشت حياتها كيفما اتّفق.. وبالأحرى.. طوت نفسها في فراش ذابل لتنام معظم النهار.. وتستيقظ في الليل باحثة عن فتات! عن بقايا.. هاربة من نظرات التأنيب والتوبيخ لها!

  • وتدرك جيدا أنّهم جميعا لا يحبونها! لأنّهم يفكرون من سيفتح بابه ليسكنها بعد وفاة أمّهم المسنة! من؟!

يوما ما قالَت لقرينها:

  • هل يوجد قانون يصادر الهوية والجنسية والانتماء؟ ويلقي المرء في صحراء مقفرة خاوية من الجميع؟! هل ثمة قانون مشابه؟!

ورغم خطاباته الشهيرة في التفريق والتمزيق والشتات.. إلّا أنّه اكتفى بحرق سيجارته وأطفأها في جدار أفكارها وهواجسها وغادر! بعد أن قال لها:

  • القانون لا يحمي المغفلين؟!

نعم.. ليس ثمة قانون يحمي المغفلين والحمقى؟! ماذا عن النساء المغفلات؟ الحمقاوات؟ الهشّات؟ هل يفترض أن تبحث عن أماكن بيع الأعضاء وتكتب ورقة للتبرعات؟ لتقوم بعمل مُشّرفٍ يرفع من خزي أهلها وذويها الساخرين منها ومن مطبّات حياتها؟!

هل ستخرج جثتها بين صفين من الأطباء ينحنون أمامها وهي تُقاد للموت؟ لانتزاع الأعضاء؟! ليقف أحدهم مكفهر الوجه:

  • أعضاؤها فاسده.. لا تصلح للتبرع؟!

أتذكر ليلتها بأنّها ماتتّ غمّا مرّتين.. مرّة عند شعورها بالخيبة وبأنّ أعضائها التالفة لا تصلح للتبرعات..

ومرّة لأنّها أدرَكَتْ أنّها آخر محطّة لتقديم خدمة جليلة للبشرية!

وعندما أشارت الساعة إلى الثالثة صباحا..

قررَت الخروج للبحث عن شيطان؟ عن شبح! عن ذلك الشيء المرعب الذي يتحدثون عنه! ولم تجد إلّا قطّا عابثا صرخ حين دهَسَت ذيله دون أن تنتبه؛ فقال لها:

  • تبّا لكِ! عمياء؟!
  • عمياء؟!

وتساءلت عن العمى؟! وكيف يكون ذلك الظلام الدامس المحيط بالروح؟ بالبصيرة؟ وهل هو حاسّة من الحواس التي قالوا أنّها ليست خمسا، بل سبعا! فالعلم تطور، والإضافات على قدم وساق! والكتب التي طُبِعَت قبل عامين اكتشف واضعها أنّ بها الكثير من الثغرات القابلة للنسف؟!

  • هل بالإمكان حرق نسخها؟!
  • وأن تقام طريقة الحرق كما يحدث في الطقوس الهندوسية؟

أفاقت من نومها على صوت نباح كلب تداخل مع صياح زوجة شقيقها وهي ترعد في وجهها:

  • لماذا ضربتِ ابني؟!

لا تتذكر أنّها ضربته.. بل صرخت في وجهه بعد أن وثب عليها وضربها في رأسها، وطوّق عنقها، ففتحت ذراعيه، وأبعدته وزجرته!

وسمعت كلمات كثيرة تنهال على مسامعها، عن جنونها، ومصاريفها! وبأنّها حولت حياتهم إلى جحيم! وأشياء كثيرة لم تكن لتستوعب بعد أبعاده؟ بل صعدّت زوجة شقيقها الموقف من فراغ؟! وكان شقيقها واقفا أمامها متأثرا بحجم معاناة زوجته معها! وكيف أنّ حريتها قيدت بوجود شقيقته معهما!

لذلك قرّرا عقد اجتماع مع بقية أشقّائه.. حتّى يتحملوا العبء! فهي أخت الجميع؟ ولماذا تحتمل زوجته فقط وجود شقيقته معه؟!

وتمخضّ الاجتماع عن اتّفاق.. وهو أن تقضي النصف الأول من اليوم في منزل شقيقها الكبير، وتقضي النصف الثاني في منزل شقيقها الصغير؟! أمّا الأوسط.. فقد وصلت زوجته إلى ذروة غضبها، وأقسمت إن جلست شقيقته؛ فلن تجلس في البيت؟!

سمعت صوتا ينادي اسمها:

  • وفاء.

فنهضت من مكانها.. وذهبت إلى الصالة لتجد أشقّاءها مكفهري الوجه، كأنّ مصابا حلّ بهم.. وجلست في الزاوية.. قال لها شقيقها الكبير:

  • عقدنا اتّفاقا أن تسكني أسبوعا معي، وأسبوعا مع محمد.

فاستدرك الآخر مُصحْحِا:

  • بل نصف يوم معه، والنصف الآخر معي!
  • وأمّي؟!
  • أمّنا ستظل هنا مع جاسم.

نظرت تجاه أمّها العاجزة عن النطق، وكل ما رأته دموعا نازفة على خدّها الشاحب همّا وألما..

واستجمعت طاقتها على الفهم والاستيعاب؛ لتفهم مرّة ثانية أين ستقيم؟

فوقف شقيقها جاسم أمامها وقال لها:

  • هيّا انهضي.. تعالي معي..

تبعته، وسبقته زوجته التي كانت تهزّ جسدها انتصارا كأنّها في معركة وربحت فيها، وأحضرت العاملة حقيبة سفر.. وبدأت زوجة شقيقها تكدّس ملابسها في الحقيبة وهي صامتة وفي ذهول!

وبعد أن أغلقت الحقيبة قالت لزوجها:

  • أسرع قبل أن يغير شقيقك رأيه، ويهرب منها!

قال لشقيقته، احضري الحقيبة وتعالي.

جذبت حقيبتها.. وقاومت الدوار الذي أصابها.. وذهبت لتلقي على أمّها نظرة علّها تفهم ماذا يفعلون بها.. فسمعت صراخ شقيقها:

  • أسرعي!

اتّجهت للسيارة ولمحت شقيقها الكبير شاحب الوجه.. ورفعت الحقيبة الثقيلة ببطء شديد.. ثم صعدت السيارة وانطلق حال سماع صوت الباب..

لتستقبله زوجته بالردح والسبّ وبأنّها غير مجبرة على تحمل شقيقته المريضة المجنونة كما يسمونها..

واكتفى بأن ساعدها في حمل حقيبتها بعد أن لمح دموعا على خدّها؛ لامس شيئا من رحمة في قلبه.. وطلب منها البقاء في إحدى غرف الملحق، وأغلق الباب حتّى لا تسمع المزيد من الإهانات الموجعة.

ولم يفتح في تلك الليلة إلّا بيد الخادمة التي أحضرت لها طعام العشاء.. ووقفت تتأملها وتبتسم وتهزّ رأسها!

فبادلتها الابتسامة التي سرعان ما تلاشت على صوت زوجة شقيقها:

  • عندما تستيقظين اذهبي إلى منزل محمد.. هل تعرفين موقعه؟!

كان محمد يسكن في الجهة المقابلة.. بينهما شارع.. لكنّها لم تذهب إليه إلّا مرّة واحدة بعد إقامته وليمة بمناسبة البيت الجديد، ولم يحدث أن ذهبت إليهم مرّة أخرى، بل كان يتهرب منّها كلّما قالت له أريد الذهاب إلى بيتك، فيختفي أسبوعا أو أسبوعين أو شهرا كاملا؛ وربما لن يتحدث معها ولن يردّ عليها إلّا إذا سمحت زوجته بذلك، بل تولّت زوجته مهمة الردّ عنه في أي شيء تطلبه، فهو مشغول، ولن يحضر شيئا، بل يمرّ بضائقه مالية!

 ولم يحدث أن تحدث معها بلطف إلّا عندما عرف بأنّ لديها مبلغ تستلمه من الضمان الاجتماعي؛ طمعا في ذلك المبلغ؛ وبعد أن أخذ المبلغ تلاشت ابتسامته، وأخذ وضعية الصنم كلّما رآها!

كهيئته الآن كلّما رآها تدخل من الباب صباحا إلى منزله؛ فيتغير لون زوجته، وتتأفف لمجرد رؤيتها.. ليطبطب عليها متمنيا موت شقيقته:

  • اصبري.. سيجعل الله بعد عسر يسرا!

(النهاية)

تعليق عبر الفيس بوك