الحج إلى ظفار

 

خالد بن سعد الشنفري

قد يُثيرُ العنوان أعلاه استغرابًا، لكنه لا يخلو من الحقيقة، فلطالما كانت ظفار منطقة جاذبة للكثيرين للتوقف فيها والاستقرار أحيانًا، لا شك أنَّ عدة عوامل تجذب العابرين؛ منها الطبيعة والمناخ واعتداله طوال العام تقريبًا ويسر العيش ورغده في فترات كثيرة من التاريخ، إضافة إلى أجوائها الروحانية وكرم وطيبة أهلها وكثرة المساجد والمزارات الدينية فيها.

لعل أصدق مثال على ذلك، قصة ضيف البليد؛ حيث يتواتر منذ 700 عام أنهم كانوا يتنازعون على استضافة أي غريب يُصلي معهم في جامع البليد الكبير ذي الـ160 عمودًا وسارية، حتى وصل الأمر في إحدى المرات لخلع يد أحد الضيوف بين اثنين أو أكثر منهم، كل يسحبه من طرف لاستضافته (ومن الكرم ما قتل.. أحيانًا)، وأصبح مثال "ضيف البليد" يُتندر به منذ تلك الحادثة إلى اليوم، مما اضطر الكثيرين منهم حينها إلى بناء مساجد، وكل من نزل يصلي بأيٍّ منها يعتبر ضيفًا على صاحبه، وشواهد وبقايا هذه المساجد في البليد لازالت شاخصة إلى اليوم.

ومن الذكريات التي نحتفظ بها منذ الطفولة في الستينات مناظر ما يطلق عليهم بالدارجة الظفارية "الحجاجيين"؛ أي الذاهبين أو العائدين من الديار المقدسة للحج، يأتي هؤلاء في جماعات من مناطق جنوب شرق آسيا ضمنهم عوائل وأطفال.

تعودنا على منظرهم؛ حيث يستقرون للإقامة على الشاطئ تحت ظلال بساتين أشجار النارجيل بمحاذاة السور الخارجي الشرقي لأسوار قصر الحصن.

أسئلة كثيرة كانت تخطر على ذهني؛ مثل: كيف يأتون فجأة في جماعات كبيرة يزيد عددها عن المئة فرد وأكثر وهم طبقة بمستوى أقل من الفقر، وهذا ما يظهر من ثيابهم المهترئة وأمتعتهم التي يحملونها على ظهورهم في صرر من الأقمشة، وتشتمل حتى على قدور الطبخ البسيطة وبعض حبوب الغذاء وأباريق للشرب والوضوء، وكيف يتنقلون حتى وصولهم لهذا الموقع وكيف يعتاشون؟!

عرفتُ فيما بعد أنهم حجاج يكونون في طريق ذهابهم أو عودتهم من الديار المقدسة ويبدو أن ضمن خطة رحلتهم التوقف في ظفار؛ لزيارة بعض قبور الأنبياء، فقد كانت سفن النقل الخشبية الصغيرة تنزلهم في منطقة حاسك، ولا شك أن لنزولهم هناك علاقة بوجود قبر النبي صالح، بالقرب منها على البحر، ثم يواصلون السير على الأقدام إلى صلالة.

مناظرهم ما زالت عالقة في الذاكرة، النساء والأطفال لا يبرحون مكان إقامتهم تحت بساتين النارجيل، ويصطاد الرجال أحيانا من البحر ويأتينا بعضهم إلى مساجد الحافة كجامع الشيخ علي ومسجد محضار، ويكرمهم الناس ويجودون عليهم بالطعام والكساء والفراش وغيرها، وكانوا لا يرفضون صدقة مع تعففهم ويرددون الأدعية بكثرة.

كانوا يزورن قبر النبي عمران وبعض المزارات، ويقال إن البعض من الرجال يذهبون لزيارة قبر النبي أيوب.

ومن المفارقات في قصة هؤلاء أن آخر هذه المجموعات وصلت واستقرت بنفس المكان على الشاطئ بعد عصر النهضة 1970 مباشرة بفترة بسيطة، وأخذ بعض المواطنين يشغل الرجال منهم كعمال بناء (كوليه) فاستطاب لهم المقام، وبقي كثير منهم ولم يعودوا إلى ديارهم ولم يجبرهم أحد على العودة فمكثوا بيننا حتى حصلوا على الجنسية العُمانية بعد ذلك، وتزوجت بعض بناتهم من عُمانيين وتخصصت بعض عائلاتهم في صنع أكياس حمل الطعام والأمتعة الخفيفة من الأوراق الداخلية النظيفة من طبقات أوراق أكياس الأسمنت البورتلندي التي بدأ استيرادها بكميات كبيرة لمسايرة عملية البناء الحديث، وذلك قبل أن تصل إلينا أكياس حمل الأمتعة البلاستيكية الحالية.

ما زال حجيج هؤلاء القوم يتكرر علينا إلى اليوم، لكن مع الفارق؛ فقد أصبحوا يغطون كل قرية وبقعة في عُمان وأصبحوا يشكلون أكبر الجاليات لدينا عددًا.. اللهم أعطنا خيرهم.. وكف عنَّا شرورهم.