ماذا بقي من مدرسة الأمس؟

 

أحمد الرحبي

يعود الطلبة اليوم إلى الدراسة، بعد انقطاع عن الدراسة بشكلها التقليدي، لأكثر من سنة ونصف السنة تقريبًا، بعد الظروف الطارئة التي خلقتها جائحة كورونا التي اجتاحت العالم مطلع 2020، وأثارت الرعب في أرجائه، وعطلت مفاصل الحياة في مدنه وقراه، حيث استطاعت هذه الجائحة بتأثيراتها العميقة، في مفاصل الحياة العامة، أن توجد واقعاً جديداً.

يعود الطلبة، ونكاد نقول إنِّهم كبروا نصف قرن من الزمن، أو تقدموا في الزمن نصف قرن بكامله، وكأن هؤلاء الطلبة العائدون إلى مدارسهم، استقلوا آلة الزمن وقطعوا نصف قرن في عمق الزمن باتجاه المُستقبل، يعودون والأمور لم تعُد على ما كانت عليه قبل سنة ونصف السنة، يعودون وقد ترقمن جميعهم- إذا جازت العبارة- أي أصبحوا طلبة رقميين إلى درجة كبيرة في تعاملهم مع مواد المنهج والدراسة، ومناحي الحياة الأخرى، متوجين بعودتهم هذه، ظهور "الحكومة الإلكترونية" على إنها حقيقة ناجزة، هذه المرة، بعد أن ظل الحديث عن قيامها في السلطنة، قبل أكثر من  15 سنة، بدون نتائج تذكر على الأرض.

يعودون، لا إلى أسوار المدرسة، ولكن إلى فضاء تعليمي مفتوح، خاصة وهم يخضعون لـ"النظام المدمج" في الدراسة، بين الحضور إلى المدرسة، ومتابعة الدراسة من البيت، من خلال شبكة الإنترنت، وهو ما يؤدى إلى خفوت دور المدرسة برمزيتها السابقة، المتمثلة في إلزامية الحضور والانصراف، وما يؤدي بالتالي إلى انتقال مركزية العملية التعليمية التي كانت مرتكزة في السابق على دور المدرسة؛ لتكون هذه المركزية ترتبط بالعالم الافتراضي، أكثر من ارتباطها، بجانب مكاني مرجعي، تمثله المدرسة بمرافقها من فصول وقاعات ومختبرات، ومكاتب إدارية، وكادر وظيفي، تعليمي، تربوي، إداري.

وهو ما سيُؤدي بدوره إلى أن تنتقل العملية التعليمية، ما بين المدرسة والبيت، أو يجري تقاسمها مناصفة بينهما، فيكون حينها الطالب في هذه الانتقالة والتقاسم، ليس بذلك المتلقي القديم الذي يمارس عليه المدرس سلطته التلقينية التقليدية، ولكنه سيكون أقرب إلى الندية مع مدرسيه، طالما أن الدروس والعملية التعليمية ستلجأ في هذه الحال إلى اعتماد الخيار الرقمي، سواء في التواصل الرقمي المباشر، أو عن طريق المواد والوسائل المسجلة والمعدة مسبقًا، وسبب هذه الندية التي سيحوزها الطالب بمواجهة المدرس؛ كون أن العالم الرقمي منذ سيطر هذا العالم على حياتنا، كان متعة الناشئة ومنبع تسليتهم على مدار يومهم، ووسيلة إبداعية ما فتئت تفجر في داخلهم طاقات ذكية- طاقات عفوية خام من الذكاء الرقمي- جاوزت الحدود في عطائها، وكأن الطالب بهذا أتيح له أخيراً أن يقود معركته  في ساحته التي خبرها.

لا شك أنَّ مزايا الرقمنة، وتجربة مُمارسة الأنشطة عن بعد، التي خبرناها، وأنتجت تجربة مشجعة بسبب ظروف التباعد التي فرضتها جائحة كورونا، ستؤدي على مستوى العالم إلى اعتماد خيار ممارسة كثير من الأنشطة، في المساحة المفتوحة الواسعة للعالم الافتراضي، وما يشجع على انتهاج هذا الخيار، هو اقتصادي بحت؛ حيث يتيح العمل وممارسة الأنشطة عن بعد، الاستغناء عن الكثير من المرافق التي تستهلك الكثير من الموارد ومن الطاقة، ولو طبق هذا الخيار على مستوى المدارس والمرافق التعليمية، وهي تشكل بمرافقها أعدادا كبيرة، على مستوى المدينة أو المحافظة الواحدة، بكل إدارييها  وموظفيها ومدرسيها، لتم تحقيق الكثير من التوفير في المصاريف، التي يمكن تجييرها في تدعيم وتطوير المستوى التعليمي، من حيث المنهج والكادر.

لقد فرضت علينا ظروف الوباء، الالتزام بسلوكيات جديدة، بتنا نحرص على اتباعها والتقيد بها، في حياتنا كأنها طقوس لا يمكن الإخلال بها، وفرضت متغيرات أعمق في مختلف مناحي الحياة في العالم، حيث باتت هذه المتغيرات أكثر ملاءمة لحياتنا، في ظل الثورة الرقمية، ومع البحث عن اقتصاد أقل تكلفة، في ظل الاستثمار الخدماتي المعولم، العابر للحدود.