القطاع الخاص.. نحو أدوار جديدة (2- 3)

 

 

د. يوسف بن حمد البلوشي

yousufh@omaninvestgateway.com

 

تمرُ السلطنة- كغيرها من الدول النفطية- بمرحلة حاسمة تحتاج فيها لإعادة انبثاق نموذجها التنموي الذي أدى دوره خلال المرحلة المنصرمة، وأوصلنا إلى ما نحن إليه من جاهزية اليوم، وتبقى الحاجة إلى كل يدٍ ومصدر طاقة لتشغيل قاطرات التنمية المختلفة والمعول عليها الكثير لاستعادة زخم النمو.

ويستوجب ذلك أدوارا جديدة من الفاعلين في عملية التنمية وعلى رأسهم غرفة تجارة وصناعة عُمان- التي أسست سنة 1973- ومرت بالعديد من المراحل ومارست أدوارًا مختلفة، وقد آن الأوان لتكون أبرز اللاعبين في تنفيذ رؤية "عمان 2040" وأن تعمل على تمكين الشركات ورواد الأعمال للقيام بالدور المنوط بهم، وحماية مصالحهم من جانب، وتحقيق الأهداف الوطنية لخلق فرص عمل ومتطلبات القيمة المضافة المحلية وتدريب الكوادر والدراسات النوعية ونقل التكنولوجيا وغير ذلك من أهداف من جانب آخر.

هذا.. ويمتلك رجال الأعمال العمانيون المعرفة الكافية والفهم العميق بالظروف المحلية والعديد من المفاتيح، حول كيفية التعامل مع التحديات المختلفة، وقد سطّر الكثيرون منهم قصص نجاح وكفاح ملهمة لبناء وصناعة المستقبل المنشود. ويعول أبناء الأسرة العمانية الكبيرة، الكثير عليهم؛ للقيام بدور مهم في تحقيق الأهداف المنشودة في المرحلة المقبلة والمتعلقة بالتحولات النوعية في النموذج التنموي. ففي سياق الترويج لجذب الاستثمارات الأجنبية، يمكن للغرفة ورجال الأعمال المحليين من خلال علاقاتهم التجارية مع المتعاملين من العالم الخارجي؛ سواءً كانوا موردين أو مستثمرين أو مصدرين، القيام بدورٍ مهم لجذب الاستثمارات الأجنبية المباشرة والدخول في شراكات من شأنها أن تضمن انتقال المعرفة والتكنولوجيا والمهارات والقدرة على فتح الأسواق وأفضل الممارسات، إلى الشركات المحلية لتنمو وتزدهر. ولا شك أن هذه الثقافة ما زالت محدودة وتتطلب تمكينًا من الحكومة بالأطر والدعم المناسب؛ لتحويل الحكومة من مقدم للخدمة إلى مُمَكِّنٍ للقطاع الخاص للقيام بها.

وتمكين الغرفة، رجال الأعمال من أداء هذا الدور لن يتأتى دون تمكينهم والتعامل مع العديد من المُعوقات التقليدية التي تحد من تنافسيتهم والنقص الحاد في المعلومات والبيانات حول البيئة الاستثمارية والفرص المُتاحة بتفاصيل كافية؛ لشد اهتمام المستثمر المحلي والأجنبي، ويجب أن تتضافر مع كل ذلك، الجهود الساعية لطمأنة المستثمرين والحد من درجة عدم اليقين والضبابية التي تسود التوجهات، فيما يتعلق بتكلفة الحصول على التمويل، والضرائب، ورسوم العمل، والأُطر المعمول بها، وديمومة القوانين والتشريعات المنظمة لبيئة الأعمال، وكذلك تبسيط وتسريع التراخيص ووضوح وتوافر سلاسل الإمداد والاستيراد والتصدير والوصول إلى قاعدة عريضة من المستهلكين المحليين والدوليين.

من المعلوم أن المرء منِّا يلجأ إلى بيته طمعًا في الأمان والدعم؛ لمواجهة التحديات المختلفة، والأمر ذاته ينتظره التجار من بيتهم: غرفة تجارة وصناعة عُمان؛ فالشركات بمختلف أنواعها تحتاج إلى تحول نوعي في أعمالها والتي ارتبطت بشكل كبير بنموذج ريعي استند على النفط والمناقصات الحكومية والاستيراد، وهذا نموذج يمضي نحو التلاشي للعديد من الأسباب؛ أهمها: تراجع أهمية النفط الاستراتيجية، وتغير أنماط استهلاكه، وظهور مصادر مختلفة للطاقة، والتحسن الملحوظ جراء الثورة الصناعية الرابعة، وتداعيات جائحة كوفيد-19 الذي التي غيرت قواعد اللعبة. والأهم من كل ذلك، أننا في عُمان لدينا رؤية جديدة تنادي بعناوين جديدة؛ كالإنتاج والتصنيع المحلي والتصدير، ويستلزم الأمر الأخذ بأيدي شركاتنا المحلية لنجاح في التحول المنشود وهناك أدوار مهمة للغرفة في هذا الشأن.

وأشيرُ هنا إلى واقع تجربة شخصية أثناء دراستي في المملكة المتحدة وانضمامي لعضوية إحدى غرف التجارة البريطانية؛ وهي عضوية متاحة للطلبة والمقيمين ولا يُشترط امتلاك سجل تجاري لمن أراد الاستفادة من خدمات الغرفة، وهي كثيرة ومتنوعة ومتكررة، من بينها: لقاءات التعارف وبناء العلاقات بين أصحاب الأعمال الكبيرة والصغيرة والجامعات والمجتمع، ويصاحب ذلك معارض لبعض السلع والخدمات وتعزيز التسهيلات بين الموردين والمستهلكين والمستثمرين وتوفير معلومات استشرافية عن أي تغيرات مرتقبة في الوضع الداخلي والخارجي قد تؤثر على الأعمال، وكذلك بناء جسور وروابط أمامية وخلفية بين الأعمال وإنشاء حاضنات أعمال متخصصة لقطاعات وسلع واعدة.

محليًا.. تستوجبُ إدارة القطاع الخاص الحاجة الملحة لمراجعة الأبعاد الاقتصادية والاجتماعية لتنشيط وتحفيز الشركات المحلية؛ لتتمكن من تكبير حجم الاقتصاد والقاعدة الإنتاجية، وخلق فرص عمل، وكل ذلك يتطلب منظورًا استراتيجيًا يأخذُ في عين الاعتبار مُراجعة صريحة لتكلفة الأعمال في السلطنة، والتي يراها الكثيرون غير تنافسية على المستوى الإقليمي.

ولذلك دور الغرفة في صياغة السياسات والتشريعات مع الحكومة دور محوري، فهناك مأخذ على تفرُد الحكومة بصياغة السياسات دون الأخذ في الاعتبار تنافسية الأعمال للشركات. وفي سياق سابق، أشرنا إلى ضرورة إنشاء المجلس الاقتصادي والاجتماعي؛ ليكون بيتًا من بيوت الخبرة وذراعًا استشاريًّا، للحكومة، يُمثل مُختلف شرائح المجتمع، ويهدف إلى تشجيع الحوار الإيجابي وبناء التوافق حول أهم القضايا والسياسات والقرارات الاقتصادية والاجتماعية، وتقييم أثر سياسات التنمية والسياسات العامة، وتقديم المشورة والمقترحات والبدائل المبنية على البيانات والدراسات لتحقيق التنمية الشاملة وتعزيز المشاركة في صنع القرار، وذلك تعزيزًا لثقافة التكاملية والتعاون بين المؤسسات.

ولا يخفى الدور الإستراتيجي الذي يمكن أن يُؤديه المجلس المذكور مع غرفة تجارة وصناعة عمان جنبًا إلى جنب مع الحكومة، من خلال تبني خطاب تنموي جديد يُوضّح التحديات والحلول والأدوار المطلوبة والسياسات العامة لتغيير بوصلة النموذج التنموي.

وينتظر منتسبو الغرفة المشاركة في إعداد نظام غرفتهم الجديد الذي سيعمل على تأطير فلسفة جديدة تخدم التحولات المنشودة في المجالات المختلفة، بدءًا من تحديد فجوات المنتجات في السوق المحلي وفتح الأسواق الجديدة وتسهيل الوصول إليها، وكذلك إقامة المعارض السلعية للمُنتجات العمانية وإعداد خارطة استثمارية للفرص، وتعميق ثقافة التصدير والقيمة المضافة المحلية ودراسة الفجوات في سوق العمل لمعالجتها من خلال برامج التدريب الوتأهيل خاصة، فضلاً عن تبني ملفات رواد الأعمال، وتشجيع عمليات الاندماج المدروس بين الشركات المحلية لتكوين كيانات كبيرة قادرة على امتصاص الصدمات وتوسع أعمالها إلى العالمية.

وثمة دورٌ مهمٌ- بجانب ما سبق- من أجل تعزيز عامل التوقع الإيجابي للمستقبل لدينا جميعًا؛ حيث تتبلور القرارات والأنماط السلوكية بناءً على عدد من المعطيات والتجارب السابقة وعامل التوقع واستشراف المستقبل. ولذلك تشير التجارب في الأمم الناهضة إلى أنها أوجدت عامل التوقع الإيجابي لدى أفرادها وشركاتها، وتم تغذيته لدى الأطراف المختلفة بأساليب مختلفة؛ مباشرة وغير مُباشرة، وذلك للتأثير على أنماط سلوكيات الأطراف المُختلفة، ومن بينها الشركات، والتي بناءً على قراراتها وممارساتها اليومية، تتحدد مساراتها. فإذا ساد التوقع الإيجابي للوضع الراهن والمستقبلي، فسيقبلُ الأفراد والشركات والأجهزة المختلفة على اتخاذ قرارات إيجابية وتحمل هامش مخاطر أكبر، ويقوى جدار الثقة بين الجميع، وتنهض الأمة والمجتمع، والعكس صحيح!

لذلك على الغرفة تعزيز الفهم والوعي في مُجتمع الأعمال والشركات في القطاع الخاص باشتراطات ومواصفات السلع المحلية للولوج إلى الأسواق الدولية، وخطاب إعلامي جديد لتوضيح التحديات والأدوار والتحولات المطلوبة من القطاع الخاص العُماني في إطار رؤية "عُمان 2040".

ختامًا.. كي نتقدم بثقة فلابُد من إشراك رجال الأعمال في كل ما يخصهم؛ إذ إن تنافسية أعمال الشركات واستمرارها على المحك. ولقد ربط الله- عز وجل- النتائج بالمسببات، وهناك سنن كونية يجب عدم الحياد عنها، فكما أن هناك أسبابًا لنهوض واستقرار وازدهار الدول والشركات والأفراد، بناءً على عوامل توقع وقرارات وسلوكيات وأدوار إيجابية، فهناك أسباب تراجع وانكسار وانحدار، بناءً على عوامل توقع وأدوار وقرارات غير إيجابية. والاختيار بأيدينا، فإما أن نصم آذاننا ونُواصل الحديث عن الفرص والمقومات وإرث الأجداد والأدوار والقضاء والقدر، وإما أن نسوي أشرعتنا ونبحر في آفاق التنمية الواسعة والتي تحتاج إلى من يرون في كل بيت عماني أنفسهم ويعملون على رفعته ويسهرون على سعادته.