مفارقة الرأي

 

شهاب الريامي

 

يحدث أن تجد نفسك منساقاً أو مُتحيزاً في الرأي مع الأغلبية دون المعرفة العميقة ببواطن بعض الأمور وإنما هي جذب عميقٌ في فلسفة المطابقة ومفارقة الرأي في النظر إلى الأمور من زاوية الأغلبية، مع تكرار تلك المواقف تستقر مرساة الاعتقاد برأي الآخرين إنه أقوى وأصح من رأيك، وقد تتخللها إطارات فكرية مُعقدة من أشكال تلك الأحكام حيث يطغى عليها بعض المطابقة الفكرية مع الآخرين من خلال معرفتك بهم أو الافتراض المسبق عن الشخصيات المعروفة إليك وقريبة منك، وأحياناً من بعض المعرفات في الوسائل الاجتماعية من خلال العنوان أو المظهر السائد.

في تجربة من سلسة تجارب أجراها عالم النفس الأمريكي الشهير سليمان آش لكشف مدى تأثير رأي الأغلبية على آرائنا الشخصية والعوامل المؤثرة في تحفيز الرغبات والدوافع الإنسانية، حيث قام بطرح مجموعة بسيطة من الأسئلة على مجموعة من المشاركين يتوجب عليهم الإجابة شفوياً وهم في الحقيقة ممثلون في هذه التجربة وقد تدربوا عليها مسبقاً باستثناء شخص واحد هو محور وموضوع هذه التجربة!

والتجربة كانت تتمثل في عرض مجموعة من الخطوط المتوازية والمختلفة في الأطوال وعلى المتسابقين تحديد أيهم الأطول أو الذي قد يتساوى في التماثل والتطابق مع الآخر. النتائج كانت مدهشة؛ حيث جاءت إجابات 75% على الأقل، خاطئة، نتيجة تأثرهم برأي الأغلبية، تشير النتائج إلى أن المطابقة في الأفكار يمكن أن تتأثر مع الآخرين والاعتقاد بأن الآخرين أكثر ذكاء أو خبرة!

وعند النظر في من حولنا نجد أن الغالبية قد تمتلك آراءً مثالية ومدهشة قد تأسر الألباب في عمق تأملها وتمحصها في خفايا الأمور والأحداث، لكن تلك المفارقة العجيبة التي تجعل المرء يزعم أن رأي الآخرين أقوى وأكثر دقة من رأيه، أن هناك عدة عوامل قد أثرت على نجاح سيطرة رأي الأغلبية على الفرد منها الارتياب والاستسهال وعدم الرغبة في سخرية الآخرين والبيئة الفكرية التي نشأ وترعرع فيها منذ نعومة أظافره على عدم التجريب والتفكر في صناعة المواقف حتى إذا بلغ أشده إما خالف الجميع لحاجة ما في نفسه لا يعلمها أو يشارك الأغلبية دون إدراك ووعي في سلسلة اللحظة الحالية، ومنها أيضاً وهي الأخطر الآن وهي برمجة العقل الواعي بسلسة من الخوارزميات المعلوماتية المعقدة في الوسائل الاجتماعية حتى يتسنى للعاملين عليها توثيق وإدراج تلك الفكرة عبر أسوار العقل الواعي ببطء إلى أرشيف العقل اللاوعي حتى يصدر لاحقاً تعاطفا وتضامنا مع ما أسلف برمجته.

وتمَّ شرح هذه الفكرة بالتفصيل في برنامج أنتجته شركة أفلام "نتفلكس" باسم "المعضلة الاجتماعية The Social dilemma "؛ حيث تمَّ استعراض من باب الشفافية عن سياسة الشركة وآلية العمل لجعل وتحفيز دوافع ورغبات المشاهدين في التواجد في الوسط الإلكتروني وتمرير طرق مُقننة في برمجية التأثير وصناعة الدوافع من خلال تواجد المليارات من البشر عبر الوسائل الاجتماعية، ومن خلال المشاهدة يطلع المرء على كيفية حدوث بعض تلك المفارقات والتزامنيات العجيبة من أجل توحيد فكرة ما، مثل فرضية إن الكرة الأرضية مسطحة!

هل نحن نتبع سلوك الجماعات أم الأفراد (المطابقة الاجتماعية) وكما تسمى في علم السلوك والاجتماع "سلوك القطيع" لكي نتزامن مع توافقهم واكتساب رضاهم والتماهي، وعلى النقيض أيضاً يحدث أن يكون الفرد محركا عملاقا في سلوك المجموعات كمثل ما جسده الممثل هنري فوندا عام 1957 بدوره في فيلم "12 رجلًا غاضبًا" عندما لجأ وبإصرار إلى برمج عقولهم على وجهة نظره حتى أقنع بها بقية زملائه في هيئة المحلفين بعد معركة ضارية.

في هذا العصر المتسارع والأجيال المستنيرة بأحدث التقنيات والمرئيات المثيرة من خلال عجلة الثورة الصناعية الرابعة، نجد أن على المرء أن يواكب المتغيرات العالمية في شتى النواحي والجوانب حتى يسهل عليه الإبحار في محيط ذي أمواج عاتية من الآراء المختلفة والمتطابقة.

عوِّد نفسك العميقة على الاستقلال في الرأي والابتعاد عن الوقوع في تلك المفارقات التي تعطل شفرة العقل من العمل اللامتناهي في صناعة رأي يخلو من الابتذال والاختزال التطابقي مع الجماعات. وتحدث ببراعة وانصت بمهارة إلى ما وراء الحروف وإيقاع الكلمات وأمر عقلك أن يجتهد أن يحسن الظن في رأي الآخرين. صدقني قد لا تبدو كل العبارات والآراء هي كما تفهما أنت من الآخرين حيث إن لها سياق مختلف لرغبة ودوافع قائلها. أحرص على أن تكون في حالة من اليقظة الذهنية وأنت تسأل وتتبين قصد وضوح ما ترغب في إدخاله في بوابة عقلك متحررًا من تلك الخيوط والإطارات الفكرية أو التحيزات الاجتماعية في صناعة مفارقات الرأي.

وأخيرًا.. في رحلة تنمية بصيرة ذاتك استفد من كل العابرين صغيرهم وكبيرهم عالمهم وجاهلهم؛ حيث إن ثمة آراء بين تلك الروزنامة الملهمة والأبواب المؤصدة سينبهر بها عقلك وترفع بها شأنك وتسمو بها نفسك الحرة.

تعليق عبر الفيس بوك