الميراث (1)

 

 

فاطمة إسماعيل اليمانية

 

"عندما تتحدث حضرتك عن المُثُل العُليا مع جائع؛ سوف يطلب منك أن تشويها وتكثر الفلفل" جلال عامر.

***

نهضنا جميعا في نفس اللّحظة الّتي وصلت فيها جنازة عفراء. كانت أمّها تصرخ بأعلى صوت يمكن إطلاقه من حنجرة إنسان.. وكّنا نشاركها البكاء، والدموع، كان عزاؤها مليئا بالنساء والزحمة وحرارة الدموع كتَمَت الأنفاس؛ فتغيرت وجوهنا، وألواننا كمدا، وحزنا، واختناقا!

وكان الجميع في كفّة -هم وحزنهم ودموعهم ونحيبهم - وزوج عفراء في كفّة!

زوجها ذو الثمانين عاما، بلحيته البيضاء الطويلة، وكرشه الضخم، وبشرته البيضاء، وملابسه وعمامته البيضاء! كان عبد اللطيف أبيضا في أبيض، فظنّت إحدى الفتيات الصغيرات بأنّه ملك الموت، وسمعتها تقول لشقيقتها وهي تُشير إليه:

-عزرائيل!

مرّ في ذهني شريط الذكريات، الطفولة، والصداقة، والمدرسة، وعفراء الجميلة، وعيونها الخضراء الواسعة، لذلك كانت تناديها أمّها بالحورية، وعندما كبرت، خطبّها معظم شباب الحارة، ورفضت الأمّ تزويجها بهم؛ لأنّهم فقراء، أو بسطاء، أو رعاع كما تسميهم.. رعاع!

وفي أحد الأعراس، حضرت عفراء مع والدتها، وكانت تبدو أجمل من العروس نفسها؛ فقالت إحدى النساء لأمّها:

  • ما شاء الله.. سأخطبها لابني.

فرّدت أمّ عفراء عليها بصوت عالٍ لتسمع الحاضرات:

-عفراء، لن أزوجها إلّا وزير!

فقالت زوجة حماها لها:

-لو تزوجينها السنّدباد، أو علي بابا أفضل!

فضحكت النساء، واكتفت أمّ عفراء بفتح أصابعها الخمسّة، والإشارة إلى وجه زوجة حماها، كنوع من الاحتقار! لكّنها عندما عادت إلى منزلها، وقفت أمام زوجها، وأخذت تردح على رأسه:

  • عَلّم زوجةَ شقيقك الأدب!
  • أعلمها الأدب! بصفتي؟
  • بصفتك شقيق زوجها!
  •  إذا كنتُ عاجزا عن تعليمك الأدب! بصفتي زوجك؟! كيف سأعلمها هي الأدب؟!

وتقسم عفراء أنّ والدتها ظلّت ليلة كاملة تولول وتبكي وتتوعد زوجة حماها بالانتقام!

ورغم أنّ أمّها كانت ذات طابع حاد لكنّها سرعان ما تهدأ.. وكلما زاد غضبها، سهلت عملية إرضائها..

لذلك عندما حدثت المشّادة بينها وبين والدها، ذهبت عفراء وشقيقتها إلى غرفتهما، وفتحتا خزانتهما، تتأملان الملابس، وتنتقيان منهما ما يصلح للذهاب في رحلة إلى الوادي، واتّفقتا أن تُعِدّ عفراء الشاي، والقهوة، وعصير اللّيمون، بينما تعد عذراء طبقا من البسكويت، وكعكة الزعفران المفضّلة لديها.

وفي الصباح الباكر، وعلى الإفطار السّخي، قال لهما والدهما:

  •  استعدّا.. سنذهب إلى الوادي.

لكنّ هذه الزيارة مختلفة تماما، كانت تحمل قَدَرا لعفراء يغير مجرى حياتها، عفراء الّتي نشأت على أنّها جميلة الجميلات، أو الحورية، أو نفرتيتي كما كانت تُطلق عليها معلمتنا المصرية:

  • ملامحك تشبه ملامح نفرتيتي!

وعندما سمعنا التشبيه، ضحكنا جميعا، كُنّا نعتقد أنّ نفرتيتي " شتيمة "! لكنّ المعلمة أوضحت لنا أنّها ملكة فرعونية جميلة جدا!

وشكرنا الله أنّنا حرمنا من جمال نفرتيتي! فقالت لنا عفراء، عندما شعرت بأنّنا لم نستعذب الاسم:

  • فخامة الاسم تكفي!

ولم نكن نهتم كثيرا بالألقاب، والأسماء، ولا الأشكال، كان همنا أن نحافظ على صداقاتنا في إطار المجموعة، أو "الشلّة" وألّا نفترق مهما حدث.

وكان من حسن حظّي أن أكون صديقة عفراء؛ لأنّها فتاة طيبة القلب، وعند حدوث أيّ مشكلة، تأخذ بيدي وتسحبني معها، كما تسحب الأم طفلتها، وتقول لي:

  • اهدئي..

فأردد لها بيتا من الشعر منسوب للإمام الشافعي:

لا يكن ظنّك إلا سيئـــــــــــا *** إنّ سوء الظنّ من أقوى الفطن!

  •  وأنت تركتِ جميع أشعار الإمام الشافعي رحمه الله، وحفظتِ هذا البيت بالذات؟
  • بالذات!

لكنّها تتحمل أسلوبي، وتشرح لي بهدوء سوء الظنّ الذي كان يسيطر على تفكيري؛ فأشعر بأنّها محقّة في كل كلمة تتفوه بها.. وأعود للصفّ لأعتذر لزميلتي الّتي كنتُ أود شدّ شعرها كما أزعم!

كانت عفراء رائعة.. ومذهلة.. ولذلك لفتت انتباه عبداللّطيف من أول يوم رآها فيها، وهي تجوب الوادي مع شقيقتها..

ولم تنتبها إلى جلوس عائلة عبد اللطيف خلف شجرة كبيرة كانت قد غطّت المكان بأغصانها، وأوراقها الكثيفة..

تابعتا المشي، حتّى اقتربتا من الشجرة؛ فتعثرت عفراء بحجر، وسقطت بالقرب من عبد اللطيف، وزوجته، وأبنائه، وما بين ذهول، وضحك الأبناء الصغار، وارتباك عبداللّطيف وزوجته الّتي نهضت من مكانها لتساعدها على النهوض!

كان وجه عفراء ملطّخا بالمرق المتطاير من الوعاء الّذي ارتطمت به أثناء سقوطها، وشعرت بالإحراج الشديد، ونهضت وهي تعتذر عن سقوطها أمامهم! وابتعدت، وخلفها شقيقتها عذراء الّتي كانت تترنح من شدّة الضحك!

غسلت عفراء وجهها، ومسحت عباءتها، وشالها من رذاذ المرق المتطاير.. وبعد خمس دقائق.. أقبلت زوجة عبداللّطيف قاصدة مكان جلوس عائلة عفراء، فابتعد والد عفراء من المكان، وهو منكس الرأس، وأشارت أمّ عفراء لزوجة عبد اللطيف بالاقتراب، والجلوس معهم.

وأخبرتهم زوجة عبد اللطيف بأنّها جاءت لتسأل عن عفراء، وهل هي بخير أم تأذت بسبب سقوطها؟

شربت معهم الشاي، والقهوة، وتناولت قطعة من البسكويت، وأخرى من الكعك، ثم غادرت المكان.. وغادرت عائلة عفراء الوادي...

 لكنّ عفراء لم تغادر عقل عبداللّطيف، ولا قلبه!

واحتفظ عبد اللطيف بالورقة الّتي كتبت فيها أمّ عفراء رقم هاتف منزلهم بعد أن تبادلت السيّدتان، الأرقام، والعناوين، والأسماء، ومكان الإقامة، والشعور بالارتياح، ثم لا شك لاحقا.. ستتبادلان الدعاء بالهلاك، واللّعنات!

وفي اليوم التالي، أخبرتنا عفراء عمّا حدث لها في الوادي؛ فتخيلنا الموقف وضحكنا عليها.. وحدّثتنا عن زوجة عبد اللطيف الطيبة وعن وعدها لهم بالزيارة.

مرّ الفصل الدراسي الأول سريعا، وظهرت نسب الثانوية العامة، واستقبلت الطالبات بطاقات الدرجات بالبكاء، والدموع..

كان البكاء سيد الموقف..

 فالأولى على الصف بكت فرحا، واحتضنت ورقتها، وقبلتها!

والغالبية العظمى من ذوات النسب المتفاوتة بين الجيّد جدا، والجيّد، استقبلن بطاقات الدرجات بالدموع أولا، ثم بالحمد والشكر لله.. أو الصّمت!

 وبعضهن أخذت وجوههن وجوه تماثيل الجبس؛ فلا ابتسامة رضا.. ولا التواء تذمر.. ولا تقويس شفاه حزينة!

أمّا فئة الراسبات..  فكّن يبكين.. ويصرخن:

  • ظلمونا.. ظلمونا!

أمّا أنا فلم أكن أعرف مع أيّ فريق يجب أن أكون!

لكنّني حافظت على هدوئي.. وعلى ابتسامتي.. وعلى يميني ألّا أذرف دمعة واحدة!

وكانت أغنية عبد الحليم حافظ تصدح في عقلي:

  • أيّ دمعة حزن.. لا.. لا..

فاعتقدت بنات الصف أنّني حصلت على معدل مرتفع! لأنّني الوحيدة الّتي لم تشارك الأخريات فعالية البكاء الجماعي..

وفي الحقيقة.. أنّني عقدت رهانا مع شقيقتي أنّ الّتي ستبكي ستدفع للأخرى مبلغا وقدره عشرة ريالات!

 ولم أكن أرغب في إعطاء شقيقتي ريالا واحدا..  فكيف بعشرة ريالات!

وكنت وإياها في نفس الفصل، ومكثنا ساعة كاملة نتراشق النظرات..

  • من ستبكي؟  ومن ستغالب الدموع؟!

ورغم مقاومتها البكاء، إلّا أنّ صديقتها المقربة، ارتمت في حضنها وهي تبكي بكاءً مرّا، فلم تتمالك شقيقتي نفسها، ودخلت معها في نوبة بكاء حادّة..

فَرِحتُ فرحاً شديدا.. وأشرّتُ لها بأصابعي العشر؛ لأذكرها بالمبلغ! مبلغ الرّهان!

وفي المنزل أخبرَت شقيقتي والدي بموضوع الرّهان ليدفع عنها، فقلت له:

  • عشرون ريالا لو سمحت..
  • الاتفاق بينكما عشرة ريالات!
  •  أنتَ تعمل، وهي طالبة!

أخرج والدي عشرين ريالا من جيبه وأعطاني؛ فأخذتها وأريت الجميع العشرين ريالا؛ لأغيظ شقيقتي!

لكنّها ذهبت إليه باكية؛ فأشفق عليها، وأعطاها عشرين ريالا كما أعطاني!

وقضينا طوال اللّيل نتحدث عن الخلل في الرّهان، وكيف أنّني لن أدخل معها في رهان مرّة أخرى!

فقالت لي متعجبة:

  • لمـــــاذا؟!
  • لأنّني تعرضت للخديعة على يد والدي! فكان الأولى أن أحصل على ثلاثين ريالا: عشرون هدية النجاح.. وعشرة مبلغ الرّهان!

وحتّى تسكتني شقيقتي، صرخت وقالت:

  • حسنا.. حسنا.. سأعطيك عشرة ريالات عن الرّهان!

عندها سكتّ، ودخلت في نوم عميق! ولم تكن لتعطيني المبلغ، ولم أكن لآخذه منّها، بل مجرد شعور بأنّني ربحت!

(يتبع...)

تعليق عبر الفيس بوك