الجيوش لا تنكسر

 

 

إسماعيل بن شهاب البلوشي

 

بين الانكسار وجزئية الهزيمة في عالم الصراع والحروب، مساحة واسعة ومعقدة من الحقائق والأحداث التي توصف بها الجيوش على مر التاريخ، فلا شك أنَّ أي جيش- مهما بلغت قوته- يمكن أن يتعرض إلى خسارة، لكن خسارة معركة لا تعني خسارة الحرب، وحتى خسارة الحرب لا تعني الاستسلام، وإن وصلت الأمور إلى استسلام دولة فإنَّ ذلك لا يعني النهاية؛ حيث تتحول الجيوش إلى مُقاومة، ثم مقاومة منظمة، وتعود لتبني نفسها وتُحقق النَّصر.

ومن أراد أن يقرأ التاريخ في الحضارات القديمة، فإن تاريخ الرومان غنيٌ بمثل هذه الأحداث والمواقف.. لكن السؤال المهم: لماذا يقاتل بعض من الجيوش بشراسة إلى الدرجة التي تصل إلى الفداء بالروح عند الزحام ولا يقبل الفرد حتى بالاستسلام ويفضل الموت بشرف وبسالة؟ مع علمه ويقينه بأن كرامته أزلية حتى بعد موته. وثمَّة جيوش أخرى نسمع عنها من خلال هالة إعلامية منسقة وانتصارات خاطفة، غير أنها تتلاشى عند الاختبار الحقيقي؟!

من ناحية التنظير فإنَّ الأمر سهل جداً وهو العقيدة القتالية واختلاف قراءتها والإيمان بها بين جيش وآخر، وفي واحد من أجزائها أن يكون من وطن له جذور عميقة في كل حقائق الأوطان، وأن يكون ذلك الجيش مؤمناً بالقضية التي يقاتل من أجلها، وأن كل منتسب لذلك الجيش يعلم وبكل وضوح أنه تحت إمرة وقيادة وطنية تقّدر عمله وستحمي أسرته إن ترك الدنيا؛ بل إن نظام ذلك الوطن سيسمح بحياة وديمومة واستمرار لكل ما يملك، وأن له قائدًا أعلى ورمزاً يستحق النضال باسمه ومن أجله، وأن قدم له وساماً يوماً، فإنَّ ذلك الوسام له قيمة معنوية كبيرة سيفتخر بها إلى الأبد، كما أنه يعلم أنه حصل على أفضل ما يكون من رعاية وتسليح ومعنوية ودعم وطني شامل ومن كل أطياف المجتمع، والذي هو غير متجزئ إلى فئات وأطياف وتيارات متضاربة، كما أنه وفي عمق فكره موصول بماضٍ عسكري وفخر تاريخي بين بني البشر، كما إن عقيدته القتالية كُتبت سطورها منذ أمد بعيد وإنه كفرد يعلم أن له مكاناً من خلاله أضاف إلى حروفها من عرقه ودمه ما يجعلها الأجمل بين بني البشر، تلك الحقائق بين القيادة والعقيدة القتالية لا يمكن لها أن تكون وليدة اللحظة؛ بل إنها تحتاج ليس فقط إلى وقت إنما إلى حقائق وأحداث صادقة ومستمرة البناء بمعرفة واطلاع وإتقان من الجميع وإن لقوات السلطان المسلحة تاريخاً مشرفاً وباعاً طويلاً بُني مجده عبر السنين عُمانياً خالصاً وأخذ صبغته القتالية جيلاً بعد جيل.

وفي المُقابل.. لماذا تنكسر بعض الجيوش؟ وإنني واحد ممن قال "الجيوش لا تنكسر"؛ ذلك أنها أصلاً لم تكن جيوشاً؛ بل إن المصلحة المرحلية ولغرض ما شكّل اسماً ليس له جذور، ولم يكن له سمة وروح عميقة يستمد منها القوة، ولقد كانت المرحلة مبنية على شعارات وقيادات اسمية تثبت لمن يدفع لها ويحقق مصالحها واقعاً مجسداً بالصورة والوهم، وتجمل تلك الصورة مقابل تلك المصالح ليس إلا؛ بل إنها قد تتحدث عن أرقام من الجنود وولاءات غير موجودة على أرض الواقع، وكذلك فإنَّ في مثل هذه التشكيلات تقع في أكبر خطأ قيادي، وهو تهميش المستويات الأصغر في القيادة، ليس في الجانب القيادي وحسب، إنما من قسمة الغنائم التي هي أصلاً سبباً أساسياً للقتال، حتى يصل الأمر إلى عدم مقدرتهم على توضيح المصاعب التي تواجههم وما يعرفون عن الخلل في قسمة تلك الأموال بعيدا جداً عن الجانب الوطني والفداء، حتى يصلوا إلى مرحلة التمثيل المتقن أن كل شيء على درجة الكمال، وبذلك يكتمل المشهد والتمثيل بوجود قوة عظمى، لكن في الحقيقة أن كل شيء يعمل خارج منظومة ما، تحتاج له القوة الحقيقية من ولاء وهدف وقيادة بشكلٍ متقن ومنسق يستحق أن يكون مشروع حياة.