استقلالية الرقابة على المال العام

 

د. محمد حركات

محلل اقتصادي وخبير دولي في القدرات الاستراتيجية

ثمة دراسة أجراها خبراء مستقلون عن مجموعة البنك الدولي بمعية المنظمة الدولية للأجهزة العليا للرقابة (الانتوساي)، شملت تقييم 118 بلدا كما تم تقديمها ومناقشتها يوم 27 يوليو 2021 عبر تقنية الاتصال المرئي عن بعد، بمشاركة مجموعة من رؤساء الأجهزة الرقابية الكبرى والمهنيين كالمراقب العام لمكتب المحاسبة بالولايات المتحدة والمدير الدولي للحكامة بالبنك الدولي والمدققتين العامتين في السويد وجامايكا والمدير الرئيسي للسياسات بشراكة الميزانية الدولية "IBP".

كل هؤلاء أكدوا أن وضعية استقلالية الأجهزة العليا للرقابة على المال العام مقلقة ولا تبعث على الرضا والارتياح، وأن هناك جهود كبرى ينبغي أن تُبذل في سبيل تحقيق التطلعات الطموحة الواردة في "إعلان ليما" لعام 1977 بشأن استقلالية هذه الأجهزة والتي تلعب دورا محوريا في تعزيز الحوكمة والشفافية والمساءلة في المجتمع؛ من خلال القدرة على إجراء تقييم موضوعي للبرامج والسياسات والعمليات والنتائج الحكومية، ولتحديد ما إذا كانت إدارة الموارد العامة موثوقة وتجري على نحو مسؤول وفعال لترسيخ الثقة بين كافة الفاعلين الاقتصاديين والاجتماعية والمواطنين، مشددين- بصفة خاصة- على أهمية ضمان الحياد في تعيين وتقوية القدرات القيادية للأجهزة الرقابية العليا لتكون بعيدة عن التأثيرات السياسية.

وتُبرز الدراسة/ التقرير أن منطقة جنوب آسيا تبدو الأعلى أداءً في مؤشر الاستقلالية الأجهزة العليا، تليها منطقة أوروبا وآسيا الوسطى ومنطقة أمريكا اللاتينية والبحر الكاريبي، فيما حلّت منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا ومنطقة أفريقيا جنوب الصحراء في ذيل القائمة.

ويقر هذا التقرير الذي هو نتاج جهد جماعي لمختلف المتدخلين ووحدات قطاع الممارسات العالمية للحكامة أن من شأن ضمان الاستقلالية للجهاز الأعلى للرقابة على المال العام وفاء هذا الأخير في ممارسة كل الصلاحيات المخولة له بفعالية ونجاعة أداء. فهو عندما يتمتع باستقلالية كاملة يستطيع القيام بكل المهام ويساعد على الحد من هدر المال العام وإساءة استخدامه ويتمكن من توجيه رقابته بشكل أفضل نحو مكافحة الفساد، طبقا لإعلان "مونتيفيديو 1998"، والحد من الفقر تم تقييم مدى إنجاز أهداف التنمية المستدامة.

أهداف ومناهج الدراسة

يهدف التقرير لإثراء المعلومات وتحسيس كل المنظمات والمتدخلين بأهمية استقلالية الجهاز الأعلى للرقابة ويشمل التقييم 10 مؤشرات تستند إلى المعايير والممارسات الدولية الفضلى، من بينها الأبعاد القانونية والمالية والبشرية المتعلقة بالمهام المخولة للجهاز وكذا نطاق التغطية وإجراءات العمل.

ولكل مؤشر أعطيت درجة واحدة عند استيفائه المعايير الكلية للمؤشر ونصف درجة عند استيفائه جزئيا ونقطة صفرية في حالة عدم استيفاء المعايير يعني أن تكون درجة التنقيط الكلية 10، إذا تم استيفاء كل المعايير بشكل كامل.

ويميز التقرير بخمس مستويات وفئات مختلفة كالتالي: المستوى الأول (أ) وهي الفئة العالية جدا والتي تستوفي جميع مؤشرات الاستقلالية. المستوى الثاني (ب): وهو الفئة العالية التي تستوفي معظم المؤشرات. المستوى الثالث (ج): وهي الفئة الكبرى الذي تستوفي العديد من مؤشرات الاستقلالية. المستوى الرابع (د): يعني الفئة المتوسطة التي تستوفي بعض مؤشرات الاستقلالية. وأخيرا المستوى الخامس (هـ): وهي الفئة المتدنية والتي لا تستوفي إلا قليلا من المؤشرات.

تظهر النتائج أن بلدين أفريقيين فقط هما الذين حصلا على الدرجة 10 في المستوى العالي جدًا وهما جنوب أفريقيا وجزر سيشل، وتمَّ تقييم استقلاليته في درجة عالية في 17 بلدا منها: الأرجنتين والبرازيل والصين وكولومبيا والمكسيك والسودان وتركيا وأوغندا. وضمن فئة الاستقلالية الكبيرة، من الدرجة الثالثة، وردت 33 دولة منها: المغرب، تونس، ألبانيا، بنغلاديش، بوليفيا، شيلي، غانا، جواتيمالا، الهند، إندونيسيا، كينيا، باكستان، الفيلبين، رومانيا، روندا وزمبابوي.

أما الفئة الرابعة ذات الاستقلالية المتوسطة فهي تضم 37 بلدا؛ منها: أفغانستان، أنغولا، كومبوديا، جيبوتي، الإكوادور، السلفادور، إثيوبيا، الغابون، هايتي، العراق، الأردن، ليبريا، منغوليا، موزمبيق، نيكارغوا، نيجيريا، السنغال، سيراليون، تنزانيا، فيتنام، فلسطين، وزامبيا.

أما الفئة الخامسة المُتدنية والأخيرة في الترتيب؛ فتشمل 29 بلدا جلهم أفارقة منهم: مصر، اليمن، لبنان، بنين، بوركينا فاسو، بوروندي، كابو فردي، جمهورية أفريقيا الوسطى، تشاد، جزر القمر، جمهورية الكونغو الديمقراطية، كوت ديفوار، غامبيا، غينيا، ليسوتو، مدغشقر، مالي، النيجر، بنما، جنوب السودان وتوجو.

تعتمد الدراسة على رصد 10 مؤشرات مهنية في تقييم درجة الاستقلالية في عمل الجهاز تتمثل في الإطار الدستوري والقانوني والشفافية في عملية تعيين رئيس المؤسسة وفي الاستقلالية المالية وأنواع التدقيقات واستقلالية الاشتغال والتفويض في إجراء الرقابة والحياد في تحديد نطاق المراجعة والقدرة على الإطلاع على السجلات والمعلومات والحق في رفع تقارير المراقبة والالتزام بذلك.

وبصفة خاصة، ركز كل المتداخلين أثناء تقديم نتائج الدراسة، في يوم 27 يوليو 2021، على عنصر قيادة المؤسسة ومدى الشفافية التي تطبع عملية تعيين رئيسها وهل هي تتم عبر عملية مفتوحة أم تنافسية أم يطبعها الغموض عندما يكون ذلك في الغالب في التعيين في هذا المنصب بقرارات حصرية من حزب الأغلبية أو الحزب الحاكم مما يقوض استقلالية المؤسسة، مشددين على أن هناك ضعف في هذا المجال وينبغي توفر قيادة قوية للدفاع عن الحياد والتمسك به يتم تعيينها على أساس الاستحقاق والكفاءة وهذا من شأنه تقوية الاستقلالية في الرقابة على المال العام. كما أكدوا على الدور الذي ينبغي أن يقوم به البرلمان والمواطنون وباقي منظمات المجتمع المدني في ضمان فعالية ومصداقية تدخل الجهاز الاعلى للرقابة.

معيقات وقيود بناء استقلالية حقيقية

غير أن التقييم مظاهر مؤشرات الاستقلالية على علاته يبدو غير كاف إذ تم إغفال جوانب مهمة في أعمال الجهاز والمتمثلة في مدى جودة تقارير المراقبة وقدرتها على السيطرة على المخاطر المرتبطة بتدبير المال العام، فضلا عن الاستجابة لتطلعات ورضا المواطنين حول نفاذ الأجهزة في مكافحة الفساد. لأن هناك عامة ما توجد فجوة عميقة بين ما تتضمنه تقارير المقدمة وما يمكن أن ينتظره أو يتطلبه المجتمع من هذه التقارير- فلسفة ومضمونا- عبر متابعة المخالفين للقوانين وفق السرعة الزمنية المثلى والفعالية اللازمة في استرجاع الأموال المنهوبة ومظاهر الثراء الفاحش غير المشروع.

ولقد فطن خبراء البنك الدولي لذلك في إجراء مسحهم الأولي بهذا التقييم مستخدمين الوثائق المتاحة للتأكد من صدقية وسلامة التصريحات المدلى بها من طرف الأجهزة الرقابية من خلال فحص المؤشرات وإجراء تقديرات مهنية، لا سيما عند وجود فجوة كبيرة ما بين الهياكل الرسمية المقصودة والممارسات الفعلية الرقابية وفعاليتها على أرض الواقع معتمدين على مصادر مهمة للمعلومات من بينها الوقوف على إطار قياس أداء الأجهزة العليا وتقارير الميزانية المفتوحة Open Budget للبلدان، وتقارير الإنفاق العام وطبيعة المساءلة المالية والتدقيق السنوية لتلك المؤسسات ما بين 2019 و2021. والغرض هو توفير قاعدة معرفية شاملة للممارسات العالمية للحوكمة.

وتواجه الأجهزة العليا عبر العالم رغم أهميتها الاستراتيجية القصوى في حماية المال العام والمساهمة في مكافحة الفساد والفقر عبر تعزيز الحكامة الجيدة، العديد من القيود والتحديات والمعيقات المتمثلة على الخصوص في التأثيرات السياسية على أنشطتها الرقابية وضعف الضمانات الممنوحة لها في استقلاليتها وحيادها لمباشرة كافة أعمالها والوصول إلى المعلومات المطلوبة والافتقار إلى القدرة على إنفاذ الامتثال لتوصياتها ونتائج بحثها (المتابعة الجنائية) والمساواة بين الخاضعين للرقابة، فضلاً عن ضعف الإمكانيات المالية والوسائل المادية والبشرية التي هي رهن اشارتها والافتقار إلى الكفاءات العليا اللازمة وضعف التواصل مع البرلمان ومقاومة البيئة الثقافية وعبقرية الاحتيال على النزاهة في المجتمع التي تحول دون تحقيق تطلعات المواطنين إلى المزيد من الشفافية والحكامة في مكافحة الفساد المالي والإداري بكل مظاهره وأشكاله والذي تزايد بشكل مخيف خلال العقدين الأخيرين كتضارب المصالح في التدبير العمومي وتهريب الأموال والتهرب الضريبي والثراء غير المشروع.

وتخلص الدراسة على أنه يتعين فعل الكثير لتحقيق التطلُّعات في مجال تمتع الأجهزة العليا للرقابة بكامل الاستقلالية وفق التوصيات الدولية للانتوساي والتطبيقات المهنية المثلى في التقييم حيث لم يتعدَ متوسط درجة التصنيف الكلية 7.01 في النطاق الأعلى من المستوى (ج)، ولم يحصل سوى بلدين اثنين من 118 بلداً على الدرجة 10 وتم تقييم الاستقلالية فيهما على أنها عالية للغاية؛ فيما جرى تقييم الاستقلالية على أنها عالية في 17 بلدا، وكبيرة في 33 بلدا، ومتوسطة في 37 بلداً، ومتدنية في 29 بلدا.

ولوحظ كذلك أن متوسط الدرجات على مؤشر الإطار الدستوري والقانوني 66، والشفافية في عملية تعيين رئيس المؤسسة 58. ويقع في المستوى الوسط من النتائج، مع العلم أن هذين المؤشرين يعدان الإطار السياسي والأخلاقي الذي يُرتكَز عليه في مساءلة مستخدمي الأموال العامة. وهما ذوا أهمية بالغة وحيوية لأن سمعة المؤسسة تعتمد على رؤيتها بأنها تتمتع بالحيادية في اختيار وإجراء عمليات التدقيق والمراقبة والتحقيق ورفع التقارير بشأنها، وهو ما يتطلب اختيار قيادتها الإدارية وموظفيها على أساس الجدارة والاستحقاق والحياد والنزاهة.

وتُظهر النتائج أيضاً أن هناك 56 بلداً لا تجري عمليات نجاعة الأداء رغم كون هذه الأخيرة تعد أساس تقييم البرامج الحكومية من حيث كفاءتها وفعاليتها ومدى تقدُّم الحكومة نحو تحقيق أهداف التنمية المستدامة ويمكن أن تمثل وسيلة رقابية بالغة الأهمية في تحقيق المساءلة في تداعيات جائحة كوفيد -19 وما نتج عنها من نفقات طارئة بدأت تشغل بحدة الرأي العام.

وتبرز الدراسة في مجال استقلالية الرقابة أن منطقة جنوب آسيا 81، وهي الأعلى أداءً تلتها منطقة أوروبا وآسيا الوسطى 78، ومنطقة أمريكا اللاتينية والبحر الكارايبي 73. فيما حلّت منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا ومنطقة أفريقيا جنوب الصحراء في ذيل الترتيب. فيما حصلت مؤشرات الإطار الدستوري والقانوني، والشفافية في عملية تعيين رئيس المؤسسة، والاستقلالية المالية على أكبر عدد من الأصفار، وكانت أعلى درجة في المنطقة 8.5 وأدنى درجة 3.5.

ويتساءل الخبراء هل تقل مستويات الفساد في البلدان التي تتمتع فيها الأجهزة العليا للرقابة بمستوى أعلى من الاستقلالية؟

غير أنه باستخدام مؤشرات مدركات الفساد الذي أعدَّته منظمة الشفافية الدولية Transparency International؛ كمقياس للفساد في القطاع العام، يُظهر أن هناك ارتباطاً ضعيفا، بواقع 0.22 بين استقلالية هذه الأجهزة والمستويات المتصوَّرة للفساد بالقطاع العام في أي بلد. لكنه يرى أن هناك ارتباط أقوى بين مستوى استقلالية المؤسسة العليا في البلاد والانفتاح والمصارحة بشأن الميزانية ومؤشر الميزانية المفتوحة OBI، كما حددته شراكة الميزانية الدولية BPI، هو مقياس عالمي مستقل ومُقارِن في تقييم مدى شفافية الميزانيات الحكومية. وتشير هذه النتيجة إلى أن الشفافية والمصارحة لهما تأثير كبير على استقلالية تلك المؤسسات مقارنةً بمستوى الدخل أو مستوى الفساد المتصوَّر.

وفي هذا السياق، أبرزت هذه المنظمة أساسا مدى محدودية الاستقلالية في تعيين رئيس المؤسسة وعزله، وما إذا كان التمويل كافياً، وأظهر التحليل أن نسبة المؤسسات التي تطبِّق ممارسات رقابية كافية لم تتجاوز 60%. وعليه نجد أن الخبراء يقدمون إرشادات منهجية مفصلة لفرق التقييم بالخصوص حول مدى توفر الشفافية في تعيين رئيس الجهاز الأعلى للرقابة.

لذلك يدعو الخبراء، أن تسهم كل الأطراف في تقوية قدرات الأجهزة العليا للرقابة ودعم استقلاليتها، ويعني الأمر كل من الحكومة (وزارة المالية) والبرلمان وقطاع الأعمال والمواطنين وكذا العاملين بالجهاز ومنظمات التعاون الدولي (الأنتوساي) والإعلام وهيئات المجتمع المدني.

الغرض يتمثل في تبديد المخاوف حول محدودية الاستقلالية في مراقبة المال العام وتحصينه من التبذير والفساد ومكافحة الفقر وتحقيق التنمية الشاملة.

تعليق عبر الفيس بوك