التصالح مع الذات.. جوهرُ الدِّين

 

د. صالح الفهدي

إذا رأيتَ مسلماً يُعاني من اختلالات أخلاقية في سلوكهِ أو قولهِ، يظهر للناس غير ما يُبطن، ويحافظ على أداء صلاته في حين أنه بعيدٌ عن قيم الإسلام في تعاملاتهِ وأخلاقه، أو شهدتَ آخر مضطرباً نفسياً يملأ قلبه الحقد، والضغن، والكراهية والحسد لغيرهِ من المسلمين أقرباءَ أو بُعداء، وإذا تعاملت مع من يُظهرُ في هيئته بأنه مُلتزمٌ دينياً، في حين أنه يُناقضُ الالتزامَ في أخلاقياتهِ وتعاملاته، فاعلم أنَّ هؤلاءِ لم يأخذوا من إسلامهم سوى القشور، وأنَّهم لم يفهموا هدف دينهم العميق!

غايةُ الإسلام أن يُنشأ فردًا متصالحًا مع ذاته، والتصالح مع الذات يعني الاتزان، والاعتدال، والتوافق، والسلام الداخلي، وحينئذٍ يُصبح متصالحًا مع الناس والكون بصورةٍ تلقائية.

الإِسلامُ أسمى هدفًا مما قد يفهمه البعضُ أنَّه مجرَّد شعائرَ تُقضى من صلاةٍ وزكاةٍ وصومٍ وحج، أو غير ذلك من المظاهر التي يُنسبها البعضُ إلى التَّدين؛ هو أسمى لكونه دينًا يؤسِّس لحياةٍ صالحةٍ، ولنفسٍ مستقيمةٍ، ولفكرٍ سليمٍ، ولمنهجٍ قويمٍ.

لا يمكنك أن تجد مسلمًا صادقَ الإِيمانِ غير متصالحٍ مع ذاته، لا يمكنُ إطلاقًا، فالإِسلام وضعَ له منهجيَّةً تنقِّي صدره من أوشاب الأمراض الاجتماعية كالحسد والنفاق والرياء والحقد، وتحمي شخصيته من الانحراف والشتات، واللهو، واتباعِ الشهوات، والسرُّ في ذلك هو التصالحُ مع الذات.

وهُنا فإنني أُبيِّنُ كيف يعرفُ المسلمُ أنَّه متصالحٌ مع ذاتهِ، أو أنَّهُ يُعاني من اختلالات أخلاقية أو فكرية أو نفسية، وهي مؤشِّراتٌ تحتاجُ إلى نفسٍ واعيةٍ، وقلبٍ ناصحٍ، وعقلٍ رشيد كي يقفَ في إزائها ويقيسَ نفسه بناءً عليها.

التصالح مع الذات يعني الارتقاء فوق مطامع النفس، وجشعها، في التملكِ وحيازةِ المال الذي جُبلت على حبِّه، وهذا ما يريدهُ الإسلام في المسلم، فالله سبحانه وتعالى يقول:"لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّىٰ تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ۚ وَمَا تُنفِقُوا مِن شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ"آل عمران:92" والنبي صلى الله عليه وسلم يؤكّد ذلك:(لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه) رواه البخاري ومسلم. وبهذا يرتقي الإِسلام بالمسلم إلى درجةِ الإيثار، وتغليب النظرة الإنسانية على النظرة المادية، وإلى تزكية النفس البشرية من أوضار التعلُّقِ بالمادَّة، وجعلها معيار التفوق والتميُّز على حساب العوامل الإنسانية التي هي أساس الترابط الاجتماعي.

فكيف حال الأفراد في مجتمعٍ إن كانوا طبقيين، يريدون الخير لأنفسهم، والخساسة لغيره، ويسعون إلى التميُّز لأنفسهم، ويعيقون أي تميُّز لغيرهم. في الواقع نرى صوراً مخالفة لقيمة حب الخير للآخر كما للنفس وهذا شرط الإيمان (لن يؤمن أحدكم) وهي ظاهرة متعمقة في مجتمعاتنا تنمُّ على عدم فهم غايات الدين..!

التصالح مع الذات يعني أن يكون المسلم صادقاً، فالصدقُ هو جوهر التعامل مع البشر، وحبل العلاقات المتين بينهم، وباعث الأمان فيهم، فالصدقُ ينبثقُ من الإيمان باللهِ إيمانًا عميقًا يجعل المسلم واثقًا بأنَّ صدقهُ هو درَّةَ إيمانه، لهذا لا يتوافق المسلم المتصالح مع نفسه مع الكذب أبدا، وقد سُئلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيَكُونُ الْمُؤْمِنُ جَبَانًا؟ فَقَالَ:(نَعَمْ)،فَقِيلَ لَهُ: أَيَكُونُ الْمُؤْمِنُ بَخِيلًا؟ فَقَالَ:(نَعَمْ)، فَقِيلَ لَهُ: أَيَكُونُ الْمُؤْمِنُ كَذَّابًا؟ فَقَالَ:(لَا)."رواه البيهقي في "شعب الإيمان".

المسلم المتصالح مع ذاته هو الذي يأمنُ غيره من قولهُ وفعلهُ، فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول:"المسلم من سلِم المسلمون من لسانه ويده"(متفق عليه)، ذلك؛ لأن الإيمان إذا توطَّد في النفس قوَّى صلة الإنسانِ بخالقه، وحينها لا يقدم على أمرٍ إلا فيه رضى ربه، ولا يدبرُ عن أمرٍ إلاَّ فيه سخطه.

المسلم المتصالح مع ذاته عادلٌ حتى مع أعدائه، وهذا ما يأمره الله به:"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ ۖ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا ۚ اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ ۖ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (المائدة/8).

المسلم المتصالح مع ذاته يتعالى عن الإساءة، ويعفو عن المسيء"وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ ۗ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (آل عمران/134).

خلاصة القول أننا لن نتنتهي من سردِ الأدلة على أن التصالح مع الذات هو جوهر الدين الإسلامي، وأساس الشخصية المسلمة، ومن هنا فإن الازدواجية تنشأ في نفسية المسلم إن فقد التصالح مع الذات، فتعتريه اختلالات واضطرابات وعدم ثبات في نظرته، وأفكاره، وتعاملاته، وأخلاقياته..!  وسبب ذلك يعودُ إلى أنَّ نظرته للدين إنما هي مقصورة على الشعائر الجوفاء، والهيئات الخارجية، في حين أنه بعيدٌ عن جوهر الفهم الدين، والصدق في تطبيقاته السلوكية، والفكرية، والروحانية، ومن هنا يجدرُ به أن يُراجعَ نفسه، ويقيِّم سلوكه، وأقواله، وأفكاره، حتى يصل بنفسه إلى أن التصالح مع الذات هو الإسلام ذاته.