"سماء خضراء"

الم بن نجيم البادي

 

هذا هو عنوان المجموعة القصصية للكاتبة غنية الشبيبية وهي الإصدار الأول لها تحتوي المجموعة على 18 قصة قصيرة حملت العناوين التالية: سماء خضراء- المصير- ترنيمة الغياب- المجنونة- الخالة لالبيبي- البيذامة- أمنية الجنة- أخت القمر- قلم رصاص- فستاني الكحلي- عشرون عاماً في انتطار الفرح- سيارة أجرة- زيارة أولى- حيث يسكن القمر- نور- لكني لم أحرك ساكناً- لحظة خارج الزمن- لجينة.

المجموعة شدتني إلى قراءتها بقوة حتى إنني أتممت قراءتها في فترة وجيزة وهذا يحدث معي إذا وقعت في غرام الكتاب من أول نظرة ومن أول كلمة حتى آخر كلمة أقرأ بشغف ونهم ومتعة وانبهار وإعجاب وأتفاعل مع شخوص القصص وكأنني أعيش بينهم أو كأنني كنت شاهدا على تلك الأحداث وتبقى هذه الأحداث عالقة في ذاكرتي.

واللغة التي كتبت بها القصص باذخة الجمال مدهشة ومختزلة لغة رشيقة ومختارة بعناية فائقة وإتقان باهر. والكاتبة في هذه المجموعة القصصية تبتعد وبذكاء وتخطيط مسبق عن الوصف المباشر والجاهز وكأنها تريد من القراء التفكير العميق من أجل فهم أحداث القصة ومن أجل ذلك اتبعت أسلوب النهايات المفتوحة التي تجعل القارئ يستنتج النهاية بنفسه بعيدًا عن النهايات المتوقعة والسطحية والساذجة والنمطية.

القصص في هذه المجموعة مترعة بالوجع الإنساني ومسرفة في وصف أدق التفاصيل ولا تخلو من الغموض الذي يؤدي إلى إعمال الفكر ويفجر الأسئلة.

والكاتبة هنا هي ابنة بيئتها حين تلجأ أحياناً إلى استخدام كلمات من اللهجة العمانية وتستحضر عناصر من البيئة العمانية مثل شجر الغاف والسيداف والبيذامة والنخل ربما من أجل إعطاء القصص هوية مميزة وتزيدها قرباً من القراء. ومع أن هذه المجموعة القصصية هي الإصدار الأول للكاتبة إلا أنها أظهرت براعة مذهلة وقدرة واضحة في تطويع اللغة السهلة الممتنعة بعيداً عن الحشو والتكلف والتصنع والقصص مليئة بالتراجيديا والشجن والفقد والرحيل والوجع ومُعاناة الحياة.

وفي قصة سماء خضراء؛ حيث الطفل اللقيط وبعد أن ضاق ذرعًا بكلام الناس كان يحلم بأن يصعد إلى السماء حيث الكل يعيش في أيقونته بسلام لايهمهم من أنت ولا إن كنت ود فلانة الـ.... أو ابن حرام أو حلال أو..... لكن الصعود إلى السماء الخضراء كان مجرد حلم. ثم تتركنا الكاتبة لنفكر ما الذي حدث للطفل اللقيط هل انتحر تحت عجلات تلك السيارة الحمراء الفارهة.

وفي قصة المصير الرجل السبعيني الذي يعيش مع ابنته الرؤوم فاطمة ونخلاته الثلاث التي هي محور القصة حيث إن الرجل متمسك بنخلاته التي هي مهددة بالإزالة نتيجة الحاجة لشق طريق أسفلت، وبعد أن تم اقتلاع النخلات كان الرجل ممداً على الأرض والدموع تبلل وجنتيه هل مات؟

وفي قصة ترنيمة الغياب يعيش ابن المرأة التي أصابها الخرف نتيجة التقدم في العمر صراعاً مريرا حول رغبة زوجته التي تلح عليه في التخلص من أمه بأخذها إلى دار رعاية العجزة وبين حبه لأمه وهو يستعرض ذكرياته مع أمه ورعايتها له لكنه يقرر إبقاء أمه في البيت ورعايتها وبرها.

وقصة المجنونة التي فقدت ابنها محمد الذي يقال إن والده أخذه معه بعد أن طلقها منذ ثلاثين سنة وهي تذهب كل يوم لتجلس تحت شجرة الغاف وتدور حولها خمس دورات ثم تلقي بجسدها النحيل على الأرض مرسلة ظهرها الذي يهدده الانحناء إلى جذع الغافة وهي تنتظر عودة ابنها محمد بعد أن تعبت من البحث عنه في الحواري والوديان والمزارع البعيدة والطويان والأحراش المهجورة صبيان الحارة ومراهقيهم يقتربون منها ويتحلقون حولها يتعالى زعيقهم ويصرخون في تندر وسخرية خليفوه المجنونة.. خليفوه المجنونة.

في الصباح التالي شوهدت سيارة بيضاء من نوع لاند روفر طبع عليها باللون الأسود. وزارة الصحة خرج رجلان مهندمان يلبسان يونيفورم أبيض قيداها وأدخلاها السيارة بهدوء.

وفي قصة أخت القمر مريم الجميلة الهادئة المهتمة بدراستها، كل سنة تطلع الأولى على ربيعاتها الحمدلله هكذا يتباهى بها والدها أمام رفاقه وفجأة تصاب بمرض غامض، فيها مس من جني بحري قيل لوالدها ويحتاج تذبح تيس أحمر مافيه قرون، واستمر والدها في قناعته بأنَّ ابنته مصابة بسحر ومس..

"أبوي خبرتك أكثر من مرة مريم تحتاج علاج نفسي ما تحتاج علاج سحر ومس وغيره هذا كله دجل ونصب"، هذا ما قاله شقيق مريم لوالده لكنه  ردَّ عليه "بنتي ما تروح مستشفى نفسي.  بنتي ما مجنونة".

لنكتشف أخيرا أن مريم تعرضت للاغتصاب، أكان بشرًا؟ أم أنه وحش بصقته مدن الرذيلة تتذكره مهماته المقرفة وتستحضر صرخاتها ومحاولة إفلاتها من قبضته. وكانت النهاية المأساوية.. لقد اختفت مريم وبعد بحث طويل عنها حانت التفاتة من والدها وهو يهم بالضوء إلى بئر قديمة في ساحة البيت كانت نصف مفتوحة وأمامها حذاء مريم الأخضر الذي أهداها إياه في عيد الفطر الماضي.

وفي قصة أمنية الجنة التي تتحدث عن تسلط بعض الآباء وتحكمهم في مصير بناتهم مريم معلمة اللغة العربية ترغب في الزواج من المهندس المعماري سعد لكن والدها يرفضه بشدة لأسباب قبلية ثم تعيش صراعا مريرا بين طاعة والدها وحبها لسعد والتفكير في الزواج بدون موافقة الوالد تذهب إلى المحكمة لعقد القران لكن سعد لم يأتِ عادت وألقت بجسدها الذي أنهكه الفقد وآلمته الصدمات على سريرها شعرت بوهج شهي يدغدغ رموشها المتعاقبة إنه هو لقد عاد ومعه نور روحاني مهيب.. هل كان هذا مجرد حلم؟!

وفي قصة "قلم رصاص" التي تحكي عن الأم التي تعاني من الوحدة بعد أن تركها أولادها وهي تقضي كل الوقت في انتظار زيارتهم أو الاتصال بها وعيناها لا تفارقان النافذة إلا قليلا علها تلمح ظل أحدهم يلوح من بعيد قادما يروي عطشها لمجالستهم.

أما في قصة "عشرون عاما في انتظار الفرح"، فتحكي الكاتبة قصة الأم التي مات زوجها ونذرت حياتها لتربية ابنها الوحيد أحمد وقد اشترت ماكينة خياطة تخيط الفساتين للبنات الصغيرات حتى تدبر المال من أجل الإنفاق على أحمد وفي ليلة عرسه تحدث المُفأجاة صوت ارتطام قوي قطع جلبة الغناء أصوات صريخ مروع يتعالى لنساء وأطفال هرعت إليهم تسأل عن الحادث لكن لا مجيب سوى ملامح يكسوها الوجع وتعلوها الحسرة وتتركنا الكاتبة في حيرة لنعود للتخمين أن أحمد قد مات في حادث ليلة عرسه.

وفي قصة "سيارة الأجرة"، تتحدث المؤلفة عن التقاعد المبكر سالم المتقاعد حين استلم مكافأة نهاية الخدمة، اشترى سيارة وحولها إلى سيارة أجرة، فقالت له زوجته نحتاج إلى أغراض كثيرة كتبتها لك في ورقة، وعندما نظر سالم إلى الورقة غضب وقال هذه الأغراض كثيرة والأسعار غالية. وفي الطريق تعرض لعملية سطو من الركاب وقد استولوا على محفظة النقود بعد أن ضربوه حتى فقد الوعي، وبعد أن أفاق وجد رسالة من زوجته.

سالم لا تنسى الأغراض التي أخبرتك عنها لا تنس الأرز فهو على وشك النفاد والزيت وأدوات التنظيف ولا تنس دفتر لغة إنجليزية لخالد وحقيبة لفرح فحقيبتها ممزقة.

وفي قصة "لكني لم أحرك ساكنا" تطرح الكاتبة قضية استخدام الأطفال في التسول في الأسواق. وهنا اقتبس: "خاله الله يرضى عليك شوفيلي هاي السيارة بكم بريال ونص.. يختفي الطفل ثم يعود.. خاله ربي يخليلك ولادك وأهلك اشتريها لي ربي يخليك ما عندي فلوس الله يخليك.. عادي ولدي تعال بحاسب وخذها". المرأة التي أرسلت الطفل للتسول كانت متسمرة عند باب المحل أمسكت الطفل بيد واستلت اللعبة باليد الأخرى. ثم غاصا في سيارة أجرة وانطلقا بعيدا.. هل كانا يبحثان عن ضحية أخرى ومصيدة أخرى؟

هذا تطواف مختصر في المجموعة القصصية "سماء خضراء" وهي جديرة بالقراءة، ليس من أجل المتعة والخيال المجنح وحسب، وإنما من أجل الإثراء اللغوي والفكري؛ وهي ذات بعد فلسفي عميق وخوض في قضايا المجتمع بأسلوب أدبي راقٍ.