أقنعة

فاطمة بنت إسماعيل اليمانية

 

"في هذه الرحلة الطويلة من الحياة، سوف تواجه الكثير من الأقنعة، والقليل من الوجوه".. لويجي بيرانديلو

***

السّاعة الثانية عشرة بعد منتصف الليل!

وقت " فدوى" الخاص جداً!

كان البيت هادئاً جدّا..

ذلك الهدوء المشوب بخوف من أي حركةٍ، أو صوت!

وبدأت تنتعش حواسها الخمس! والحاسّة السادسة! وتلك السّابعة الّتي تتربص بالجنّ، والشّياطين، وعمّار المنزل! وساكني الحمّامات!

والقائمة تطول لتصل إلى القطّةِ السوداء، والكلب الّذي يعوي خلف الجدار، وطَرَقات منقار طائر لم ينم، وآثر السّهر معها بنقره زجاج النّافذة!

أحياناً تشعر برعب شديد..

رغم أنّ لها خطابات ساخرة في النهار؛ لتقول لكل من يتحدث عن الجنّ والشياطين، إنّهم لن يتركوا عالمهم الفسيح الواسع الممتد، ويتسمرون في لوحةَ رسم، أو تمثال، أو دمية!

لكن تظهر حقيقتها في الليل فقط!

فتضيء الأضواء في المنزل، وتتأكد من غلق الباب أكثر من مرّة، وتضع عباءتها السوداء في الدولاب، حتّى لا يتهيأ لها أنّها شبح، أو يرتديها شيطان من الشياطين الذين يقتفون أثر أي إنسان وحيد ومنفرد!

ولذلك أيضاً فتحت الحاسوب؛ لتتصفح "الفيسبوك" رغبة منّها في الهروب من هواجسها!

وكانت وجهتها الأولى إلى صفحة أحد أصدقاء الفيسبوك الرتيبة جدّا؛ فهي مجرد إعلانات للأنشطة والفعاليات الّتي يقوم بها، أو تهنئة بالمناسبات الدينية، والوطنية التي يتداولها الجميع؛ حتّى تفقد المناسبة رونقها!

غادرت صفحته؛ لتتصفح بقية مواضيع الأصدقاء..

ولم يكن شيء يثير إنزعاجها، سوى هذا الرجل فقط، فهو يتجاهلها تماماً رغم سخائها بوضع علامة الإعجاب لكل ما ينشر!

 إلّا أنّه يتجاهل منشوراتها.. وكأنّه لا يراها أبدًا! بينما يضع علامة الإعجاب لبقية الأصدقاء في الفيسبوك.

أغلقت الحاسوب، وقررت التعامل معه بأسلوب مختلف!

أسلوب التهميش.. والحكمة الّتي تذكرتها، ونشرتها في صفحتها قبل المُغادرة، والّتي تقول:

  • عِشْ معهم.. كأنّك لا تراهم!

في اليوم التالي فتحت الفيسبوك وتفاجأت بإشارة إعجاب منه!

تواضع أخيـرًا!

ربما شعر بأنّ هذا المنشور موجه له هو بالذات؟!

ثم فتحت صفحته لتجده نشر مقالاً عن التّجاهل! وأدركت أنّه يهتم بها.. أو هذا ما تتمناه فعلا! أن يهتم بها!

  •  لماذا تهتمُ باهتمامه؟!

كانت لا تجيد الردّ على هذا السؤال الذي يدور في خاطرها، ولا تعرف حقّا السبب!

لكنّها ستستمر في تجاهله!

مرّ أسبوع على هذا الحال، تنشر المواضيع؛ فيضع لها إعجاباً.. ثم ينشر عن نفس الموضوع الّذي تتحدث عنه فدوى، لكنّها تتجاهله!

وفي نهاية الأسبوع أرسل لها رسالة على الخاص، كانت عبارة عن صورة لإحدى القصص القصيرة الّتي نشرتها في صفحتها، وكتب تعليقا عليها:

- لستُ ممن يزعجون صديقات الفيسبوك بإرسال رسائل على البريد الخاص، لكنّني تجرأتُ على ذلك؛ لأخبرك أنني فعلاً معجب بكتاباتك الرائعة، وبقلمك المميز.. ولك خالص الإعجاب والتقدير..

شعرت فدوى بأنّ الحياة دبّت في عروقها! وبأنّ كلماته أنعشت قلبها الميّت.. رغم أنّها ليست أول رسالة تصلها إعجاباً بكتاباتها.. لكنّ المُرسل مختلف الآن!

فكتبت له فقط:

  • شكرا!

وأرسلتها معتقدة أنّها الكلمة الأكثر ملاءمة لطبيعة رسالته الآن، ويجب أن تكون أكثر إتّزانا!

وبعد مرور أربع ساعات.. وصلتها رسالة منه:

  • سيدتي الرائعة.. ترددت كثيراً قبل إرسال هذه الرسالة، في الحقيقة أنّ كتاباتك توحي بثقافتك العالية، وأتمنى لو يدوم التواصل بيننا، وتكونين العين الناقدة لما أكتب؟ فإذا شعرت برغبة في التعاون معي، سأكون مديناً لك طوال العمر.

قرأت فدوى الرسالة.. وشعرت كأنّها طائر يحلّقُ في السماء.. بل فراشة تتهادى على زهور قزحيّة ملونة، وأخذت تنسج قصّة حب من وحي خيالها هي فقط!

وتحولت الرسائل النقدية إلى أسئلة خاصة عن حياتها.. وكانت ترد عليه بكل أريحية.. وتناست جميع المخاوف الّتي تشعر بها مع الغرباء عادة؛ لأنّها ببساطة معجبة بهذا الرجل!

وعندما طلب منها الأستاذ أمجد صورتها.. رفضت في البداية وبعد إلحاح شديد وافقت على إرسال صورتها..

وفي الحقيقة، كان همّ الأستاذ أمجد الإطاحة بها في فخّ الحبّ ليس إلّا.. بعد رهان مع زملاء العمل، حيث كانوا يتحدثون عن صديقات الفيسبوك المتعجرفات، وكانت "فدوى" الأكثر تعجرفاً في نظرهم!

لأنّها ألغت صداقة البعض؛ لاختلافها معهم في إحدى القضايا المطروحة للنقاش! وحظرت أحدهم لأنّه أرسل لها رسائل لطيفة كما يدّعي، ولم يهتموا كثيرا بطبيعة هذه الرسائل الّلطيفة، لكنّهم أجمعوا على أنّها تستحق التأديب!

وكانوا مصرّين على كلمة " تأديب"!

وعلى تخصيص مبلغ من المال لمن يُلقنها درسا موجعا، ويسقطها أرضًا، حتّى لا تقوم لها قائمة مرّة أخرى!

وكان الأستاذ أمجد فردًا من هذه المجموعة المتناقضة فكريا، وأخلاقيا، أو ربما المجموعة الفارغة أساسا!

وربما سبب ما هم فيه أنّهم يقضون فترات طويلة في مكاتبهم بلا عمل؛ فكانوا يقتلون الملل بالتّسكع في مواقع التواصل الاجتماعي!

لذلك يمتزج لديهم الجدّ بالهزل، والفائدة بالتسلية، ويدعون إلى الأخلاق والفضيلة، في نفس الوقت الذي يوافقون فيه على طلب صداقات من أشخاص متجردين من الأخلاق، ويتابعون صفحات لا تمت للفضيلة بصلة!

لذلك كانت علاقته بفدوى قائمة على أساس كسب الرّهان؛ وعندما استقرّت صورتها في بريده الإلكتروني؛ تحلّق أصدقاء الرهان حوله، وقال لهم:

  • الصّورة، وصلت.. وتبقى صاحبة الصورة!

ودخل الجميع في نوبة ضحك، وتعليقات ساخرة، وسافرة أيضًا، وحددوا مبلغ الرّهان في حال تمكنه من جعلها تأتي إلى الدائرة التّي يعملون فيها، ورغم بساطة المبلغ، إلّا أنّ الأستاذ أمجد شعر كأنّه سيربح المليون من هذا الرّهان! بعد مرور أسبوع طلب منها اللّقاء به في مكان عام؛ ليُعطيها هدية رمزية تذكّرها به في كل وقت! لكنّها رفضت في البداية، وقالت له:

  • مستحيــــــــــل!

ولم يرد عليها.. تجاهلها تمامًا؛ لكنّها لم تستطع تجاهل صمته؛ فأرسلت له:

  •  زعلت؟!

ولم يرد عليها.. بل ظلّ صامتًا لمدّة يومين متتاليين؛ ثمّ أرسل لها:

  • مسألة اللّقاء في مكان عام، لم تعُد تثير رعب أحد! وتستطيعين الحضور إلى مكتبي، فأنا أعمل في مكان عام، وبه الكثير من المُراجعين، والمراجعات، فأين الحرج في ذلك؟!

أرسلت له:

  • لماذا تستسهل الأمور؟!

ردّ عليها:

  • وأنتِ لماذا تعقّدين الأشياء السهلة؟! لكنّكِ تختلقين أعذاراً لا مبرر لها!

وهذه آخر رسالة منّي لكِ، وسأحذف حسابي من الفيسبوك!

وفعلاً اختفت صفحته من الموقع!

شعرت فدوى بتأنيب الضمير، وبأنّها تختنق! رغم ذلك انتظرت عودته بفارغ الصبر؛ لكنّه لم يعُد..

وفي حقيقة الأمر، كان الأستاذ أمجد يعيش قصّة حب جديدة، مع زميلة عمل التحقت منذ مدّة قصيرة للعمل معه في نفس الدائرة.

ونسى فدوى من الأساس.. ونسي الرهان.. وأصدقاء الرهان.. والفيسبوك!

وظلّت فدوى شهرا كاملا تدخل الموقع، وتبحث عن صفحته أملاً أن يكون قد غير رأيه، وأعاد فتح صفحته من جديد!

لكنّ بحثها باء بالفشل..

وتألمت على كل دقيقة شعرت فيها بالإعجاب تجاه الأستاذ أمجد.. وكتاباته.. وفَكره؛ لتكتشف أخيرًا أنّه بلا أخلاق! وكيف لفاقد الأخلاق أن يحسب على الفكر والثقافة والأدب؟!

ثمّ عمدت إلى صفحتها في الفيسبوك.. وأغلقتها للأبد!

 

(النهاية)

تعليق عبر الفيس بوك