صُبح.. والسيد كوفيد (2)

 

سمية السليمانية

sumayaalsulaimani@gmail.com

 

هناك في زاويةٍ من البيت ارتمت صبح في أحضان السكينة، أخذت نفحة نقاءٍ تسري رويدًا رويدًا في جسدها الذي أصابه الوهن، قلبها يصلي وعقلها في سجود. ساد الصمت المهيب تلك الزاوية، لا كلام، لا أحد، لا أفكار. حالة استثنائية من الحياد التام اتجاه كل شيء، كل شيء بمعنى الكلمة.

حالة من فقدان الذاكرة وهي حاضرة، ومن تبسيط الأحداث وهي معقدة، ومن التفكير المستمر إلى الركون والاستسلام، ومن الحركة اللامستقرة بين جنبات الحياة إلى سعي في النفس والروح، ومن هناك إلى هنا، ومن الماضي إلى اللحظة، ومن المستقبل إلى الآن، ومن الخوف إلى الحب والانسجام، ومن الثرثرة إلى الصمت.

تقول صبح: أصبحت أعرفني أكثر وأحبني أكثر وأكثر وأكثر، أظن أنني كنت في حاجةٍ للقاء السيد كوفيد في زمن كورونا الذي سيؤرخ في تاريخ البشرية الطويل. بعض اللقاءات استثنائية ولا تتكرر ومعها رسالة عظيمة لمن ألقى السمع وهو شهيد ولا أدعي أنني كذلك فأنا ما زلت لا أعرف ولا أعلم ولا أدري.

اقتربت منها بتعاطفٍ تام وقد عقدت حاجبي ولممت شفتي وسألتها بصوتٍ حزينٍ عن الألم إن كان مستمرا. ابتسمت صبح ابتسامةً خجلى جعلتني أبحر في عينيها علي اصطياد الجواب وهي في هدوءٍ جم يثير الاستغراب، لكنها كعادتها لا ترد سائلاً فأجابت: الألم مفتاح الأمل، إنه زر التشغيل لكل الجمال الذي في نفسك وبين يديك وأنت غافل عنه، إنه الإشارة الحمراء لمواصلة طريق الحياة وأنت في زحامٍ قد تظنه حقيقياً. إنه وصلة الروح التي تربطنا أنا وأنت وهم- بنو البشر- في اتصالٍ إنسانيٍ لا يعرف تعصباً ولا حقداً ولا كراهيةً.

لا أنكر أنَّ لعاب أسئلتي قد سال وكاد يفضحني لولا قوة خفية في صبحٍ أوقفت لجاجتي هذه التي أخجلتني من نفسي وأصبحت في حالتي هذه من يحتاج الدعم والمواساة. حاولت العثور على مداخلةٍ تعطي صبحاً انطباعاً جيداً بأني أفهمها لكنني لم أجد كلمةً ولا عبارةً مناسبةً، لذا حبذت السكوت ريثما أستعيد رباطة الجأش مرةً أخرى.

في هذه الأثناء قالت صبح: لا وقت لديَّ إلا للحب، ولذكر المعروف، وللخير، وللجمال، وللتطوير والتغيير، وللتعمير والبناء. فعلاً لا وقت لدي إلا لي، أثبث قلبي وأهذب نفسي وأرقى بعقلي وأتعرف رسالتي. غبت طويلاً عني حتى جهلتني، أهملت نفسي حتى لم أعد أعرفني، نسيت ملامح الطفلة داخلي حتى تكور عليها الخوف وما عادت تشعر بالدهشة من أي شيءٍ. وأما مكان ذلك كله فهو القلب، وما عدا ذلك من المتناقضات لا وقت لي معها. صديقتي العزيزة أنا عدت إليّ من جديدٍ.. قولي لي مبارك.

ومن نافذة الغرفة أشارت صبح إلى طائرٍ صغيرٍ يشرب من إناء ماءٍ تعودت أمها أن تضعه في ركنٍ من حديقة المنزل وبجانبه فتات من الخبز والبسكويت. تنفست صبح الصعداء وأضافت: مررت بهذا المشهد من قبل لكني لم أعره أي اهتمامٍ؛ بل ما اعتبرته لذاته شيئاً يستحق الانتظار أو النظر أصلاً، أما الآن فالوصف والشعور مختلفان. كنت هنا ولست هنا. كنت بين زمنيين، الأول منهما ولى واندثر والثاني في علم الغيب. لحظات مرت مع صبح جعلتني أشعر بأنَّ أقدامي على الأرض، ولكني طليقة متحررة من أية فكرةٍ وأشاهد ذلك الطائر وأستمتع بكل تفاصيل المكان والزمان، شعرت بالسعادة تغمرني والبهجة تنتشي في وجداني.

طلبت مني صبح أن أمشي خلفها وهي تحمل في يدها صندوقاً مصنوعاً من خشب الزان، طرزت جوانبه بخيوطٍ من الحرير. في هذا الصندوق صوراً قديمةً أخذت بكاميرات زمن الطيبين كما يسميه البعض. أخذتْ صبح تقلب ألبومات الصور وتحدثني عن تأريخ كل صورةٍ وفجأةً اكتشفت وهي غارقة في الشرح بأن جميع أمنياتها قد تحققت عبر مسيرة حياتها فقد كانت تكتب خلف كل صورةٍ أمنيةً تريدها. كانت قد تمنت أن تكون مُعلمةً فصارت معلمةً، ثم تمنت أن تكون مديرة مدرسةٍ فصارت مديرةً، وتمنت أن تلتقي بالمعارف والثقافة وآفاق الفكر في وسطٍ مختلفٍ فالتقت بها في ميادين كثيرةٍ داخل البلد وخارجها، وتمنت أن تنجب أطفالاً فصارت أماً لأبناءٍ تقر بهم العين وتسعد، وتمنت أن يكون لها منزل جميل فكان لها ما تمنت. أمنيات صغيرة وكبيرة، لكنها قد تحققت. صعقت صبح وانكشفت عنها غشاوة وصمتت كعادتها وعيناها تذرفان الدموع وقلبها يجهش بالبكاء ثم ركعت لله حمداً على ما وهبها من النعم الكثيرة التي ما استطاعت أن تحصيها.

رفعت صبح كفيها، وعيناها معلقتان في الفضاء الواسع، كانتا تشعان إشراقاً ووجهها كأنه القمر والشمس معاً، وأخذت تقول: من يرزق عمراً جديداً لا يتشكى ولا يتذمر؛ بل يصبح أكثر الناس حمداً، وفي كل يومٍ سيتكشف له معنى الحمد حتى يهدى إلى الصراط المستقيم. هو طريق تكون فيه أشواك الغفلة مغروسةً في زهور الطاعات، ولا تزال تلك الأشواك من هذه الطاعات إلا بالحمد لله رب العالمين.

كنت أحاول أن أفهم مشاعرها وأفكارها ولا أنكر أنني كنت حذرةً معها ومتطفلةً عليها في هذه اللحظات، لذا قلت حتى أجر حوارا جديدا مع صبح: لا عليك يا عزيزتي، تمنعنا الحياة أحياناً من إدراك النعم والتمتع بها. التفتت إليَّ صبح وقد توردت وجنتاها وعلت في محياها فرحة غامرة ما استطعت إليها سبيلاً، ثم أردفت قائلةً: مسكينة هي الحياة التي قذفناها باتهاماتٍ باطلةٍ ورميناها بحصى غفلتنا، إنه الخوف يا صديقتي ليس إلا. الخوف العالق في نفوسنا من كل شيءٍ حتى من الفرح والبهجة؛ بل حتى من الله، تعلمنا الخوف وجهلنا الحب. الخوف الذي سيطر على أحد الفتيان في المشفى من كوفيد، سمعته وهو يصرخ صراخاً يدمي القلوب. لم يكن يصرخ من الألم لأن الالآم متشابهة؛ بل كان خائفاً وجلاً مرتعداً، في حين كانت هناك عجوز كبيرة في العمر، تحاول جاهدةً التشبث بخيوط الأمل رغم الألم، صامتةً في خشوع مستبشرةً ومطمئنةً تكرر عبارات الحمد. الفرق بينه وبينها كان فارق العمر وخبرة الحياة. أتعلمين يا عزيزتي أننا نستطيع تعلم الحب حتى نواجه مخاوفنا بقلبٍ المؤمن، فهناك الكثير من المفاجآت القادمة في هذا الكون المتغير.

 

متخصصة في العلوم الإنسانية

تعليق عبر الفيس بوك