لن أكتب مقالًا عن "فواتير الكهرباء"

عبدالله الفارسي

طَلب مني أكثر من صديق وأكثر من مُتابع أن أكتب عن قضية فواتير الكهرباء التي تشغل النَّاس هذه الأيام وتفجر مواقع التواصل وتحرق مشاعر الخلق.

حقيقة لا أستطيع الكتابة عن فواتير الكهرباء رغم أنني حين وصلتني فاتورة هذا الشهر أصبت باختناق وصعوبة في التنفس وزخة من الغثيان، وانتابني غضب شديد، وأصارحكم أنني بحلقت عيني الاثنتين ولوّحت بيدي الطويلتين بطريقة بهلوانية جنونية، ولحسن الحظ أنهما لم تصفعا أحدا من أولئك الواقفين بجانبي.

لاحظوا هذا، أنا صاحب الراتب الجيد والوضع المعيشي الجيد وأصبت بتلك الأعراض العنيفة. كنتُ واقفاً حين استلمت الفاتورة، فاضطررت أن أجلس حتى أخفف من حدة الغضب وأخفض من معدل الغليان. لكن للأسف ظل الوضع كما هو؛ ظلت حرارتي مرتفعة وصدري يغلي كمرجل لطبخ الهريس، فذهبت إلى بيتي حتى لا أصدمُ أحدًا في الشارع أو أرتكب جريمة في الطريق. ذهبتُ مسرعاً إلى بيتي لأطفئ غضبي، فرششت وجهي ورقبتي بماء شديد البرودة وتمددت على سجادة صلاة قديمة كجثة هامدة.. لكن أقول لكم بكل أمانة، ليس لدي الإمكانية العصبية للكتابة عن فاتورة كهرباء مرتفعة، لا أحتمل الكتابة في هذه المواضيع لا أطيقها ولا أحتملها، لا أملكُ اللباقة الدبلوماسية ولا الروح الرياضية للكتابة عن فاتورة كهرباء مضاعفة أضعافًا مضاعفة. هذه القضايا لها متخصصون آخرون، وهذه المجالات لها أبطال حقيقون، فليس كل كاتب يستطيع أن يكتب عن فواتير كهرباء مُلتهبة وليس الجميع يمكنهم الخوض والولوج إلى عالم الكهرباء وأسرارها المكهربة.

أنا لا أستطيع الكتابة عن فاتورة الكهرباء، لكنني أستطيع الكتابة عن قصة رجل كبير في السن صدمته فاتورة الكهرباء حتى تجلط ومات.. نعم أستطيع كتابة ذلك وباحترافية عالية. أستطيع الكتابة عن قصة رجل وصلته فاتورة الكهرباء، فارتفع ضغطه أو انفجر شريانه التاجي فسقط يتدحرج على سلالم بيته دون أن يصرخ أو يستغيث.

نعم.. أستطيع أن أكتب في هذا المجال القصصي، أستطيعُ الكتابة عن الآثار النفسية والعصبية لفواتير الكهرباء المرتفعة وغير الطبيعية بالمرة وخطورتها حتى على تدمير العلاقات الزوجية وتفكيك الروابط الأسرية. أستطيعُ الكتابة عن أثر فواتير الكهرباء المرتفعة على مرضى القلب والشرايين ومرضى السكر، لكن لا أستطيع الكتابة عن أسبابها وعواملها ودوافعها؛ لأنني لا أفهمها! أستطيعُ الكتابة عن امرأة أرملة زوجها في السجن وهو في حكم الأموات؛ لأنه لن يخرج قبل عام 2030، وقطعوا عنها الكهرباء وقضت عدة أيام في بيت أحد جيرانها الصعاليك، والذي كان يراودها عن نفسها، قبل أن يدخل زوجها السجن. نعم أستطيع كتابة هذه القصة العجيبة والمثيرة.

يمكن أن أكتب لكم قصة امرأة لديها ثلاثة أطفال أيتام، واقفة تتكلم ويداها ترتعشان أمام موظف شركة الكهرباء وهي تقول له: هذه فواتيري السابقة كلها، وهذه فاتورة هذا الشهر، انظر إلى الفارق؟! ثم تنفجر بالبكاء أمام جمع غفير من الرجال الصامتين والذين للأسف لا يحملون مناديل في جيوبهم ليقدموها لها لتمسح دموعها الهاطلة بغزارة. نعم أستطيعُ أن أكتب لكم هذه القصة المزعجة، أستطيع الكتابة عن أسرة من أسر الضمان الاجتماعي تحصل على 200 ريال في الشهر، وتصلها فاتورة هذا الشهر 100 ريال، فتتناصف شركة الكهرباء معهم راتب معيشتهم ومصاريف طعامهم وشرابهم.. نعم أستطع أن أرسم لكم هذه اللوحة التراجيدية المُؤلمة.

لكنني لا أستطيع الكتابة عن شركات تتاجر في حياة الناس وآلامهم، في وطن أغلب مدنه تقع على البحر ودرجة حرارته في الشتاء 35 درجة مئوية، وفي الصيف 50 درجة مع الرأفة، ومعدل الرطوبة يتجاوز 70% طوال العام. لا أستطيعُ الكتابة عن أحلام الشركات وطموحاتها المالية العظيمة لأنني أجهلها تمامًا، فأنا لست متخصصًا في اقتصاد الاستثمار بالبشر واستنزاف مالهم وصحتهم وحياتهم. لذلك أعذروني لن أكتب عن موضوع فواتير الكهرباء المثيرة للتقيؤ والقرف والاشمئزاز؛ لأنني لا أفهم ماذا يحدث معنا بالضبط في وطني الرائع الجميل هذا؛ فمشروع الجباية والتربح الهائل لا تمارسه شركات الكهرباء وحدها، فهناك شركة المياه وشركات الاتصالات. فكلها شركات تجلد الناس آناء الليل وأطراف النهار وتساهم في تعاساتهم اليومية.. لماذا؟! ما زلت لا أعرف الإجابة ولا أرغب في معرفتها.