الدقم الواعدة

 

د. يوسف بن حمد البلوشي

yousufh@omaninvestgateway.com

 

سلطت زيارة حضرة صاحب الجلالة السُّلطان هيثم بن طارق المعظم- حفظه الله- إلى المملكة العربية السعودية الشقيقة، الضوء على مدينة الدقم الواعدة، والحديث عن أهميتها الاستراتيجية في معادلة التقارب الاقتصادي بين الجارتين اللتين تواجهان تحدياً كبيراً في تحقيق تحول نوعي في النموذج التنموي؛ والذي ينادي بالإنتاج والقيمة المضافة المحلية وخلق وظائف منتجة في القطاع الخاص.

وفيصل النجاح في هذا المسعى وتحقيق رؤية "عُمان 2040" و"المملكة 2030"، يكمن في تعزيز التنافسية في البلدين. والسؤال الأهم: كيف تستطيع مدينة الدقم أن تُقنع المستثمر العماني وغير العُماني بأنها يمكن أن تشكل علامة فارقة في تعزيز تنافسية الأعمال؟

في هذا الشأن، أفرزت محركات العولمة المرتبطة بعوامل الإنتاج وسلاسل التوريد العالمية قواعد ومبررات تجعل من الدقم بمساحتها الشاسعة وموقعها المتفرد المطل على ممرات مائية، وصلةً مهمةً في مسارات التجارة الدولية. ولا يخفى أن قطاع اللوجستيات هو أبرز مكامن القوة وتمتلك فيه الدقم ميزة جغرافية وإطلالة على ممرات مائية واسعة قريبة من الأسواق الإفريقية والهندية والآسيوية وهي ذاتها الأسواق التي تستهدفها المنتجات العمانية والخليجية؛ حيث إن وجود ممر بري مباشر عن طريق منفذ الربع الخالي وأنبوب نفط وغاز لنقل النفط والغاز السعودي وحتى الخليجي عبر الأراضي العمانية، سيعمل على تعزيز التنافسية من خلال تقليل تكلفة الشحن، والتأمين والمدد الزمنية التي يحتاجها للمرور من الممرات المائية الخطرة وغير المستقرة. وعُمان تمتلك سجلاً تاريخياً كمركز للتجارة الإقليمية والدولية، وكنقطة التقاء بين أسواق الإنتاج وأسواق الاستهلاك، ولديها اتفاقية التجارة الحرة مع سوق عملاق في الولايات المتحدة الأمريكية. وكذلك الحال فيما يتعلق بقطاع الثروة السمكية الذي تمتلك فيه عُمان- وخاصة محافظة الوسطى- مخزوناً كبيراً جداً ومصائد مفتوحة مطلة على المحيط الهندي، وتحتاج السلطنة إلى شريك استراتيجي، ليس لفتح الأسواق والتي من بينها السوق السعودي وحسب، ولكن أيضًا إلى شريك قادر على ضخ استثمارات مالية لرفع الكفاءة وتعظيم الاستفادة من هذا المورد الطبيعي المتجدد. كما تزخر الدقم بمخزونات كبيرة عالية الجودة من المعادن المختلفة وغير ذلك من قطاعات.

وأياً ما كان الأمر والحديث الإيجابي عن الدقم الواعدة وما تزخر به من مزايا وخصائص تمكنها إذا ما أُحسن استغلالها لتكون قاطرةً تنمويةً فاعلة لترجمة رؤية "عمان 2040"، ولضيق المساحة، سأقتصر في الحديث هنا على عدد من الجوانب التي نحتاج إليها لإنضاج قناعات جديدة تستوجب تحولاً صريحاً وتغيُراً نوعياً في الأطر الحالية المعمول بها في مدينة الدقم وغيرها من المناطق الحرة والموانئ، ومنح صلاحيات أوسع للقائمين عليها.

لقد حظيت الدقم في جانب التشريع واللوائح بما لم يحظ به غيرها، من تسهيل ومرونة، ووجب على القائمين عليها تعظيم الاستفادة من ذلك، كما نحتاج إلى تغيير الذهنيات ونمط العمل الحكومي التقليدي السائد برواتب في نهاية الشهر، دون ربط ذلك بمعايير أداء واضحة، وكذلك الفكر العقاري بتأجير الأراضي بأسعار مبالغ فيها في مدينة طور الإنشاء لرفد المالية العامة.

ثمة حاجة ملحة أيضًا لرفع تنافسية مدينة الدقم وتكلفة ممارسة الأعمال، والتي هي محصلة للعديد من العوامل بدءًا من تكلفة الخدمات، والإيجار، واستقدام العمالة، والشحن، والتأمين، كما نخص بالحديث هنا تسعير الغاز للمشاريع الضخمة المختلفة بأسعار تنافسية وتفضيلية؛ حيث تمثل التسعيرة عاملاً حاسماً في القرار الاستثماري، ويجب على الحكومة النظر إلى مكاسب تنموية متوسطة وطويلة الأجل، كتلك المرتبطة بتوطين الصناعات وخلق فرص عمل وتعزيز التنافسية لجذب الاستثمارات وتنويع الاقتصاد. كما إن هناك تحول مهم لتمكين القطاع الخاص ورجال الأعمال من تسويق الدقم وغيرها من فرص استثمارية، بدلاً من الممارسات الحالية؛ حيث يمكن أن يلعب رجال الأعمال المحليون- من خلال علاقاتهم التجارية مع نظرائهم من المتعاملين من العالم الخارجي سواء كانوا موردين أو مستثمرين أو مصدرين- دوراً مهماً في جذب الاستثمارات الأجنبية المباشرة والدخول معها في شراكات، من شأنها أن تضمن انتقال المعرفة والتكنولوجيا والمهارات والقدرة على فتح الأسواق وأفضل الممارسات إلى الشركات المحلية، كي تنمو وتزدهر.

لا شك أن هذه الثقافة ما زالت محدودة وتتطلب تمكيناً من الحكومة من خلال الأطر والدعم المناسب لتحويل الحكومة من مقدم للخدمة إلى ممكن للقطاع الخاص للقيام بها.

ويتفق معي الكثيرون، أن الدقم واعدة وتم إنفاق المليارات من الريالات لتجهيزها لتكون إحدى قاطرات النمو المهمة في المستقبل القريب، لتعزيز جهود التنويع الاقتصادي في السلطنة. ويستوجب ذلك تغييراً جوهرياً في التعامل مع ملفاتها المختلفة بعيداً عن الصندوق التقليدي الحكومي والعمل على جذب كبرى الشركات المتعددة الجنسيات في القطاعات المختلفة التي تمتلك فيها الدقم مزايا نسبية، إضافة إلى الموقع الجغرافي الاستراتيجي، وبقربها من مناطق إنتاج النفط والغاز وتوافر العديد من المعادن التي يمكن استغلالها في إقامة مشروعات صناعية.

لذلك يجب السعي الحثيث لاجتذاب كبرى الشركات العالمية التي تمتلك خطوط ملاحة عالمية وإقناعها بأن تكون الدقم مركزاً لها، وفي سبيل ذلك يجب أن تُقدم حزم تسهيلات مغرية لتلك الشركات التي لا ترى في الدقم الجاهزية المطلوبة. وفي نفس السياق من المهم تعزيز وتسهيل الحركة من وإلى الدقم، ولتحقيق ذلك ينبغي جذب خطوط طيران دولية مباشرة إلى مطار الدقم وزيادة الرحلات المحلية منها وإليها. ونفس الأمر فيما يتعلق بتأهيل الطرق البرية من الدقم إلى المدن الرئيسية والتي تحتاج إلى إعادة تأهيل، وهنا يمكن إفساح المجال للقطاع الخاص للقيام بذلك وفق هوامش ربحية مغرية في النموذج القائم على الشراكة بين الحكومة والقطاع الخاص. وتُعد المنطقة الاقتصادية الخاصة بالدقم من ضمن المناطق الاقتصادية الكبرى في العالم والأكبر في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا من حيث المساحة التي تصل إلى 2000 كم مربع، وهي قادرة على توفير المساحات المطلوبة للمشروعات.

وختامًا.. عُمان في بداية عهد جديد، وكأي عهد جديد هناك العديد من التحديات، نعم قد لا تكون لدينا معارك بمعناها التقليدي، لكن معركتنا اقتصادية، والظفر بأيدينا إذا أخذنا بأسبابها وهي متاحة وتتطلب تحولاً "براديميًا" (في النموذج) نوعياً في ما نقوم به للوصول إلى نتائج نريدها؛ لأنها لن تتحقق بنفس الأدوار والأدوات التقليدية. ويستوجب ذلك أولًا: تعزيز قدرتنا على التوقع واستشراف المستقبل، بناءً على المعطيات الحالية والتطور السريع في بعض الجوانب فيما يتعلق بمختلف جوانب الحياة. ثانيًا: تعزيز قدرتنا على التجديد في أفكارنا وأدوارنا وتوجهاتنا بما يتواءم مع استشرافنا للمستقبل. ثالثًا: أن نتحلى بالجودة والامتياز في كل ما نقوم به من أعمال وممارسات.