تهادوا تحابوا

عبدالله الفارسي

كنت في زيارة لصديق عزيز، اعتدت على زيارته مرة كل عام؛ ونظرًا لظروفه القاهرة كنت أعذره على عدم قدرته على زيارتي، وألتمس له أكثر من سبعين عذرًا على عدم زيارتي؛ لأنني أعلم تمامًا ظروفه ومعاناته وبؤسه وشقاءه الذي يغرق فيه.

وفي كل زيارة كنت أحمل له معي هدية بسيطة، كان يفرح بالهدية كثيرا، كانت تحدث في روحه أثرا ملحوظا وتبعث في نقسه فرحا غامرا، ويقول لي: هل تصدق بأننا لا نعرف الهدايا ولا نتبادلها فيما بيننا! أنت الوحيد منذ عرفتك من يحضر لي هدية.

فقلت له: الهدية لها مفعول السحر في توثيق المشاعر وتعميق أواصر العلاقات وكنس الأحقاد والعداوات.. إنها عربون محبة وميثاق ارتباط صادق بين القلوب. قلت له: هل تصدق بأنني نفسي لم أحظ بهدية في حياتي. لا أذكر بأن أحدهم قد قدم لي هدية! سوى مرة واحدة أهداني مدير المدرسة زجاجة عطر فاخر لقيامي بنشاط مدرسي لا صفي خلال عام دراسي. وما زالت احتفظ بزجاجة العطر الفاخرة الفارغة تلك حتى اللحظة في صندوقها منذ العام 1996، ويبدو أنني سأورثها لأولادي بعد موتي.

ليس شرطًا أن تكون هديتك غالية أو ثمينة، هدية بسيطة تكفي، الهدية ليس في قيمتها المادية وإنما في قيمتها المعنوية ومفعولها الساحر وتأثيرها العميق على القلب واستقرار أثرها في أعماق الروح.

منذ أشهر خرجت في رحلة بحرية لصيد السمك، وكانت عندي سكين جميلة جدًا، كنت قد اشتريتها من ماليزيا أثناء دراستي هناك، كان لها مقبض جميل من الفضة وجراب جلدي مميز، وكنت دائمًا أحب أن أحمل هذه السكين معي في رحلاتي البرية والبحرية وأتباهى بها أمام رفقتي وأصدقائي. كنّا 3 أنا وصاحب القارب والثالث كان شخصًا لا أعرفه كثيرًا، لكنه كان صديقًا لصديقي صاحب القارب.

وكان طوال الوقت ينظر للسكين معجبًا بها إعجابًا شديدًا يتأملها بكثافة ويتحسسها بأطراف أصابعه وكأنها فتاة أوكرانية باهرة الجمال!

كان يمسكها طوال الوقت ويعبث بها بشغف شديد ولم يتركها طوال رحلتنا، وبعد يومين من رحلتنا تلك أرسل لي ذلك الرجل رسالة مع صديقي صاحب القارب يطلب فيها شراء تلك السكين بأي ثمن، فقلت له: قل له إنها ليست للبيع!

وبعد عدة أيام، حملت سكيني ثم ذهبت إلى محل صياغة الفضة وطلبت تلميعها تليمعًا كاملًا، ثم وضعتها في جرابها الجلدي وغلفتها داخل صندوق جميل يتناسب مع حجمها. وذهبت إلى منزل ذلك الرجل الذي لا أعرفه حق المعرفة والذي كان يرغب في شراء السكين.

رأيت سيارته واقفه أمام الباب فقرعت بابه، فخرج الرجل وفرح بزيارتي، طبعًا اندهش بوجودي أمام بابه، وأندهش أكثر بالهدية، والتي استلمها مني دون أن يعرف ما هي.

جلسنا على الباب ندردش، وقبل انصرافي تلوت عليه نكتة جديدة ساخرة، وضحكنا عليها معا، ثم غادرته بسرعة متذرعًا بعمل طارئ.

بعد ساعة أو أقل أتصل بي هذا الرجل وهو يكاد يبكي من السعادة والحياء والفرح يقول: "أول مرة في حياتي أحصل على هدية، وأيُ هدية إنها أجمل هدية حصلت عليها في حياتي، لن أفرط فيها مدى حياتي، شكرا لك من كل قلبي".

 

حاليًا هذا الرجل من أعز أعز أصدقائي وأقربهم إلى قلبي، والسبب سكين قديمة بسيطة لا تتجاوز قيمتها 10 ريالات.

نحن مجتمعات لا تتهادى، ولم تترسخ في قلوبنا فضيلة الهدية وفضلها. لا نعرف قيمة الهدية ولا ندرك دورها ولا نعي فضلها وأثرها في مسح القلوب وغسلها وتنقيتها وجعلها قابلة للحب قادرة على التسامح والوفاء والعطاء والترابط والارتباط.

هناك العشرات والعشرات الذين عرفانهم ونعرفهم، رواتبهم كبيرة، وجيوبهم مليئة، لكن نفوسهم فقيرة، وأياديهم قصيرة وأرواحهم شحيحة، تمر عليهم المناسبات تلو المناسبات والأعياد تلو الأعياد، ولا يتهادوا فيما بينهم، ثقافة الهدية بعيدة عن عقولهم، وتلطيف المشاعر ليس من اختصاصهم.

طبعا ليس الجميع يستحق الهدية، هناك صنف غريب من البشر، لا تحدث فيه الهدية أي إثر وكأن روحه قطعة من البلاستيك الرديء غير القابل للتدوير.

كان عندي صديق انتهى من بناء بيته، فقررتُ أن أقدم له هدية، فقلت ليس هناك أفضل من تلفاز جديد ومكيف لغرفة جلوسه الجديدة. اشتريت التلفاز والمكيف، وطلبت من الشركة إخذها إلى بيته مباشرة دون أن يذكروا اسم المشتري. لكنه لاحقًا عرف من الذي أرسل له تلك الأشياء، ولم يكلف نفسه أن يهديني كلمة "شكرًا" أو حتى ثناءً أو دعاءً.

مرت الأيام.. اختلفنا قي قضية تافهة جدًا وتباعدنا، الآن خمس سنوات لم يتواصل معي، خمس سنوات وهو يتمدد في غرفة الجلوس ويفتح التلفاز ويريح صدره العريض ببرودة المكيف ويشاهد أخبار العالم التعيس كل ليلة، ولم يتذكر من قدم له هذا التلفاز الجميل وذلك المكيف الرائع!!

هذا الصنف من البشر للأسف متوافر معنا بشكل كبير وخطير.

في الختام.. ورغم وجود هذه الصنف الوبائي المقرف أقول وأردد "تهادوا تحابوا".

اهدوا زوجاتكم.. أبناءكم.. إخوانكم.. أصدقاءكم.. أقاربكم المقربين.. عمقوا روابطكم الهشة بالهدايا.. سخنوا مشاعركم الجامدة الباردة بالسخاء والعطايا، وتعلموا الروعة والرقة والدماثة والجمال من نبيكم العظيم عليه أفضل الصلاة والسلام الذي قال لكم: "تهادوا تحابوا".

وكل عام وأنتم على الحب مجتمعين.