عندما تتفوق الواقعية على "التيكي تاكا".. كيف فازت إيطاليا؟

رؤية تحليلية- أحمد السلماني

المتابع بعمق وإدراك فني لبطولة أمم أوروبا 2020، يستنتج البون الشاسع والفارق الفني والخططي والبدني الكبير لمنتخبات القارة العجوز، ونظيراتها في قارات العالم المختلفة، مع استثناء بسيط يتمثل في الظهور الفني العالي لمنتخبات الأرجنتين والبرازيل وكولومبيا، عدا ذلك فإن أمم أوروبا أفرزت مباريات مثيرة ونتائج مبهرة ونظرية حديثة وقديمة تقول "لا كبير في كرة القدم الآوروبية".

وبعد أن تهاوت منتخبات كبيرة وسقطت أمام أخرى مغمورة أو غير مرشحة، فالحديث هنا عن التألق اللافت للدنمارك ووصولها لمربع الكبار، وتألق سويسرا وخروجها الصعب أمام الماتادور الإسباني القوي، وخروج البرتغال حامل اللقب السابق وفرنسا بطلة العالم وألمانيا بتاريخها الكروي الكبير والعريق.

وشهد مربع كبار أوروبا ما يمكن اعتباره "نهائي كبير" عندما شهد لقاء العملاقين إيطاليا وإسبانيا في مباراة أقل ما يمكن وصفها بأنها مباراة كسرعظم من طراز عالٍ فنيًا وتكتيكيًا وبدنيًا؛ مباراة من المؤكد أن أكاديميات ومدارس كرة القدم في مختلف قارات العالم- إلى جانب المدربين- سيضعونها في برامجهم التدريبية، شريطة توافر نوعية خاصة من اللاعبين المؤهلين للتعاطي مع فكر كروي عالٍ عنوانه "واقعية مانشيني الإيطالي والفن الكروي الجميل لإنريكي الإسباني"، أو ما يطلق عليه كرويا "التيكي تاكا"، وهي الفلسفة التي التي أطلقتها إسبانيا عام 2008 وأحرزت بها كأس العالم 2010 وبطولتين لأمم أوروبا، عندما كان جُل لاعبي المنتخب ينتمون لفريق برشلونة، النادي الذي تبنى هذه الفلسفة وحقق بها في موسم واحد سداسية تاريخية.

ورغم أن النتيجة حُسمت لمصلحة الطليان بضربات الحظ الترجيحية، إلا أن الإسبان تسيّدوا أرضية الملعب وسيطروا وبما نسبته أحيانًا 65%؛ وهي نسبة عالية جدًا عندما تلعب أمام فريق صعب مثل الأتزوري، وفلسفتهم المعروفة بـ"الكاتنيشيو"؛ حيث اعتمدوا على إغلاق المساحات ومن ثم الاندفاع الهجومي واللعب على المرتدات والتمريرات الطويلة داخل عمق منطقة العمليات. وهنا برز جليًا الذكاء والدهاء الكروي لدى الإسباني لويس إنريكى مدرب الماتادور عندما لم يُشرك المهاجم السريع موراتا؛ كونه يلعب مع قلبي الدفاع في يوفنتوس الإيطالي كليني وبانوتشي، وأشرك ثلاثي يتقن تبادل المراكز والأدوار، وهم: أوريازابال وفيران والمزعج والخطير أولمو، وهو ما أرهق الدفاعات الإيطالية وأوجد فيها خللًا نادرًا لولا التألق اللافت للحارس الواعد دونا روما.

واعتمد إنريكي على أسلوبه المعتاد (4- 3- 3)، وأعاد إيريك جارسيا بجانب لابورت في قلب الدفاع، واستمر أزبيليكويتا كظهير أيمن وألبا كظهير أيسر، وقيد إنريكي، ألبا وأزبيليكويتا بالدور الدفاعي ومنعهما من التقدم للهجوم، لإجبار إنسيني وكييزا أخطر لاعب في إيطاليا حاليا ورجل المباراة على الضغط، بينما منح الحرية للاعبي الوسط للتقدم وصنع الزيادة العددية.

لم يشهد خط الوسط أي تغيير باستمرار الثلاثي بوسكيتس وكوكي وبيدري، فيما أظهر القائد والمخضرم بوسكيتس أداء كبيرا بواجبات دفاعية وهجومية، كما إنه عمل على الهروب من الرقابة اللصيقة من باريلا وفق تعليمان مانشيني للحد من تمريراته الذكية والقاتلة للمهاجمين، والأكثر من ذلك، فإن ثلاثي الوسط الإسباني كان مطالبًا بصناعة حتى أنصاف الفرص وتمويل المهاجمين بالكرات بشتى الطرق ومن الأطراف والعمق أمام خط دفاع هو الأقوى والأفضل من صناعة مانشيني؛ الذي أعاد الهيبة للكرة الإيطالية عندما حقق 28 انتصارًا و5 تعادلات ولم يخسر في 34 مباراة حتى الآن.

في المقابل، اعتمد مانشيني المدير الفني لإيطاليا على طريقة (4- 3- 3)، بوجود كيليني وبونوتشي قلبي دفاع، ولورينزو ظهير أيمن، وإيمرسون على الجانب الأيسر، وثلاثي الوسط باريلا وجورجينيو وفيراتي، وفي الهجوم كييزو وإنسيني وإيموبيلي.

وترك مانشيني، السيطرة والاستحواذ في الشوط الأول للإسبان، لكنه لم ينجح في تطبيق التحولات الهجومية بالشكل المطلوب، نظرًا للضغط المتقدم من الماتادور واستعادتهم للكرة بشكل سريع، ومع ذلك فإن جل ما كان يسعى إليه هو الإنتشار السريع والهجوم الخاطف واستخلاص هدف ومن ثم اللعب بطريقة الطليان المعروفة والتي لطالما حقق بها الأزوري بطولات كبرى في كأس العالم إلا أنه لم يحقق سوى بطولة واحدة لأمم آوروبا كان العام 1968 أمام السوفييت آنذاك.

وتحقق لمانشيني ذلك عندما نفذ الطليان هجمة مرتدة بدأها الحارس دوناروما بشكل مميز، حتى وصلت لكييزا داخل المنطقة، الذي سددها داخل الشباك بنجاح وبمهارة، فيما يتحمل المدافع إيريك جارسيا، المسؤولية لترك المساحة له وعدم الضغط لقطع الكرة فضلًا عن تقدم الحارس الإسباني أونيه سيمون وخروجه الخاطئ، ومع ذلك فإن سيمون كان سدا منيعا للكثير من الهجمات الإيطالية.

وأمام هذا الواقع المُقلق والدفاع الصلب قرر إنريكى الدفع بورقته الرابحة ورهانه الناجح موراتا، لاستغلال سرعته في إرباك الدفاع الإيطالي المرهق من المد الهجومي الإسباني، وتحقق له ذلك من تمريرة من أولموفي عمق دفاعات الطليان لم يتوانى في إسكانها الشباك الإيطالية معيدا الإسبان للبطولة.

وبالأرقام.. تفوّق الإسبان في كل شيء إلا في النتيجة النهائية وهي الأهم؛ إذ إنه وفق تقارير فنية بعد المباراة، فقد لعبت إيطاليا هذه المباراة عكس مبارياتها في البطولة، وعادت إلى ماضيها وتركت لعبة الاستحواذ لصالح إسبانيا، ودافعت بطريقتها القديمة؛ حيث إن استحواذ إيطاليا على الكرة بلغ نسبة 35% فقط، مقابل 65% لإسبانيا، لكن هذا كان كافياً للغاية لعبور الأتزوري إلى النهائي.

إيطاليا حاولت 7 مرات على مرمى إسبانيا، وسددت 4 كرات فقط بين القائمين والعارضة، من بينها هدف كييزا الذي منح الأفضلية للأزرق الإيطالي. وعلى الجهة الأخرى كان لإسبانيا 16 محاولة، لكنها في النهاية سددت 4 كرات فقط أيضاً على مرمى إيطاليا، من بينها هدف موراتا.

ونصب الطليان مصيدة الدفاعية التي يجيدها بشدة، وتسبب ذلك في وقوع منتخب إسبانيا في التسلل 8 مرات، مقابل مرة واحدة فقط ضد لاعبي إيطاليا. وتصدى المنتخب الإيطالي لـ5 تسديدات قبل أن تصل إلى دوناروما مقابل تصدي واحد من دفاع إسبانيا، إضافة إلى 17 استخلاص للكرة مقابل 10 لإسبانيا، و18 إبعاد للكرة مقابل 12 فقط للفريق الذي ودع البطولة بشرف.

ومرر منتخب إسبانيا الكرة 934 مرة، مقابل 404 تمريرات فقط لمنتخب إيطاليا، لكن لم تكن تمريرات "الماتدور" مفيدة بما يكفي للتغب على "الأتزوري". وبلغت نسبة دقة تمريرات إسبانيا 89% مقابل 76% لمنتخب إيطاليا، بينما قطع الفريق الإسباني مسافة 142 كيلومترًا في الملعب مقابل 145.6 كيلومترًا لإيطاليا.

ما حدث في "لقاء السحاب" بين الطليان والإسبان يجب أن يُدرس كنظريات كروية، وقبل ذلك من المهم بمكان أن يمتلك كل فريق كرة قدم في العالم فلسفة خاصة به، مع ضرورة إتقان طرق وخطط بديلة وفلسفة جديدة وفق إمكانيات الفريق المنافس.

تعليق عبر الفيس بوك