مستقبل التعليم المهني والتقني

◄ الاهتمام بالتعليم المهني والتقني يفتح الباب أمام فرص توظيف لا حصر لها

◄ المعادلة في سوق العمل تغيَّرت.. والمهارات حلت محل الشهادات

◄ عُمان بحاجة إلى كل السواعد في مختلف التخصصات كي تتقدم وتزدهر

حاتم الطائي

قرار حاسم ومُؤثر وذو دلالات بالغة الأثر، القاضي بتشكيل اللجنة الرئيسية لمشروع تطبيق التعليم المهني والتقني؛ إذ من شأن هذا القرار أن يضع اللبنات الأولى لأحد أبرز المشاريع التعليمية والتأهيلية المُتميزة في بلادنا، والذي سيفتح الباب أمام نهضة مُتجددة في قطاع التعليم المهني والتقني، ويُمثل خطوة كبيرة نحو المستقبل الذي ننشده جميعًا.

التوجيهات السامية في هذا السياق كانت واضحة وجلية للجميع، وهي أن عُمان يجب أن تُواكب المتغيرات في شتى المجالات، وأن تطوير سوق العمل وتغيير المعادلات فيه، بات أمرًا حتميًا يتعين على كل صانعي القرار دعم هذا التوجه، وإلا فإننا لن نتمكن من مسايرة تلك التطورات. ولقد كانت بداية الاهتمام السامي بهذا الجانب منذ تولي حضرة صاحب الجلالة السُّلطان هيثم بن طارق المعظم- حفظه الله ورعاه- مقاليد الحكم، عندما أكد أن "الاهتمام بقطاع التعليم بمختلف أنواعه ومستوياته وتوفير البيئة الداعمة والمحفزة للبحث العلمي والابتكار سوف يكون في سلم أولوياتنا الوطنية"، ومن بين هذه الأنواع والمستويات التعليم المهني والتقني، خاصة في مرحلة التعليم ما بعد الأساسي والذي هو محور القرار الوزاري الأخير.

والاهتمام بهذا النوع من التعليم نابع من الإدراك العميق لما طرأ على سوق العمل من مُتغيرات، فثمَّة تخصصات ووظائف لم تعد مطلوبة ولن تكون مطلوبة في المُستقبل، وفي المقابل، وظائف وتخصصات أخرى ينبغي التركيز عليها لأنها المُستقبل بعينه، وأغلب هذه الوظائف تقنية بامتياز. والشاهد في عالم اليوم، أن سوق العمل لم يعُد في حاجة حقيقية لحملة الشهادات العليا الأكاديمية، بل يحتاج إلى الأيدي العاملة الماهرة، التي تستطيع التعامل مع التقنيات، مثل المعدات الضخمة والروبوتات في المصانع، حتى الوظائف الإشرافية لن تتطلب خريجًا جامعيًا؛ بل ستحتاج إلى الخريج الذي تلقى تعليمًا تقنيًا ومهنيًا، مزج بين العلوم النظرية والخبرات العملية، مع التركيز على الأخيرة بصورة أكبر. علينا أن نعلم- مثلًا- أن 25% على الأقل في الولايات المتحدة الأمريكية هم من يعملون في وظائف بسبب تخصصهم الجامعي، وشهادتهم الأكاديمية، بينما البقية- أي 75%- تعمل في وظائف لا تتطلب أبدًا تخصصات جامعية، ولا شهادات، فقط الخبرات والمؤهلات والسمات الشخصية. فهناك الوظائف في قطاعي التسويق والخدمات- حيث تتركز مُعظم الوظائف- تشترط فقط تمتع المُتقدم للوظيفة بسمات شخصية وخبرات حياتية، ولا تنظر إلى نوع الشهادة وفئتها! والواقع يُشير بوضوح إلى أنَّ معادلة التوظيف تغيرت عن ذي قبل، فقد حلت المهارات محل البكالوريوس، وأزاحت الخبرات المهنية شهادات الدكتوراه، وبات السؤال الأول للمتقدم للوظيفة في أي مُقابلة عمل: ماذا تستطيع أن تقدم لنا؟ وكيف ستخدم المؤسسة بناءً على خبراتك السابقة؟ ولم يعد السؤال: أي جامعة تخرجت فيها؟ وكم معدلك الأكاديمي؟

بكل تأكيد هذه ليست دعوة لعدم الالتحاق بالجامعات أو عدم استكمال الدراسات العليا؛ بل العكس صحيح، نريد من كل شاب في وطننا أن يحصل على أعلى شهادة ممكنة، وأن يواصل الحصول على المزيد من الشهادات، فالعِلم نورٌ، لكن على الخريج أن يعلم تمامًا أنَّ الحصول على وظيفة لا يرتبط وحسب بتخصصه الدراسي أو الجامعة التي تخرج فيها.

والتعليم المهني والتقني يمهد الطريق نحو ثورة توظيف غير مسبوقة في وطننا، فهذه الأعداد الضخمة من العمالة الوافد غير المؤهلة، تستحوذ على سوق الوظائف المهنية، لكن لو بات لدينا مدارس أو معاهد تمنح درجة الدبلوم المهني أو التقني ومتخصصة في تخريج عمالة فنية ماهرة في مجالات التكييف والتبريد، والصرف الصحي، والتوصيلات الكهربائية، وصيانة الأجهزة المنزلية وغير ذلك؛ لوظّفنا عشرات الآلاف من أبنائنا في تلك التخصصات. وهنا نقترح أن يتم إنشاء هذه المدارس المهنية والتقنية بنظام الشراكة مع القطاع الخاص، فمثلاً تساهم وكالة سيارات كبرى في تأسيس مدرسة لتخريج فنييّ صيانة وصبغ المركبات، وشركة أخرى متخصصة في التوصيلات الكهربائية تدعم مدرسة لتخريج فنييّ هذه التوصيلات، وكذلك الحال في تخصصات مثل التكييف والتبريد والنجارة والأعمال الخشيبة والديكورات المنزلية والبستنة والتصنيع والتغليف، وذلك انطلاقًا من المسؤولية الاجتماعية لهذه الشركات، وأيضًا لتساعد هذه الشركات في توظيفهم أو تدريبهم خلال سنوات الدراسة. ويمكن في هذا السياق، أن تستفيد اللجنة الوزارية المعنية بتطبيق التعليم المهني والتقني، من تجارب الدول، خاصة في الشرق الآسيوي، أو حتى في محيطنا العربي، فالإنسان دائمًا لا يبدأ من الصفر؛ بل من حيث انتهى الآخرون.

وختامًا.. عُمان تحتاج إلى كل سواعد الوطن، بمختلف مشاربهم وتخصصاتهم، ولن يبني عُمان سوى العمانيين، وفكرة الاعتماد على عمالة أجنبية غير ماهرة لا يجب أن تستمر، ولقد أثبت الشباب العُماني المتخصص في وظائف مهنية وتقنية، نجاحًا كبيرًا، وكفاءة منقطعة النظير، ومن هنا وجب علينا جميعًا أن نُغير نظرتنا إلى سوق العمل والوظيفة، ولا يجب أن يكون أقصى طموح الشباب الجلوس على مكتب والقيام بمهام إدارية وكتابية وحسب؛ بل عليه أن يطمح نحو العمل الجاد الذي يُعزز الإنتاجية في المجتمع، ويخدم نمو اقتصادنا الوطني، ويحقق التطلعات التي نريدها.. عندئذٍ سنكون بالفعل في مصاف الدول المتقدمة بطاقات وهمم أصحاب الإنجازات في هذا الوطن المتقدم دائمًا بأبنائه الأوفياء.