عالقون!

 

فاطمة إسماعيل اليمانية

 

 

"إنّ غيوم المغيب تُضفي على كل شيءٍ ألقَ الحنين، حتّى على المِقْصَلة".. ميلان كونديرا.

------------

ثمَّة من يُخبئ أسراره، أمواله! أو فقاعات صابون يكدّسها في فمه؟ أو لا شيء؟!

لكنّ داوود لم يستطع كتمان شعوره بالخيبة عند معرفته بأنَّ أمّه التي تعيش معه؛ آثرت أحدّ أشقائه بمبلغ من المال؛ في حين أنّها تدّعي الفقر، وتُمارس طقوس الفقراء أكثر من الفقراء أنفسهم! فسألها من هول الصدمة: 

-أنا ابن من؟!

-العائلة!

فسألها ثانية وثالثة؛ لتقول له بأنّها أمّ الجميع، وبأنّ قرار الزواج من والده جريمة تدفع ثمنها بعد حصولها على ذرية شيطانية عنيدة! واضعة يدها على قلبها جهة اليمين:

-سلفة.

-سلّفينا!

-أفقركم..

-لديه وظيفة ويمتلك بيتاً وأراضي في أكثر من مدينة، وتسمينه فقيرًا؟!

لتمطره بالكثير من الكلمات المُتناقضة؛ ولا يفقه منها شيئًا عدا أنّها متورطة جدًا في أمر يفعله العديد من الآباء والأمهات، حين يمجدّون أكبرهم، ويعشقون أصغرهم، والبقية وفق ما اتّفق؛ وحسب ظروف الطقس النفسية، أو المزاج، أو الذاكرة، ربما كان أحدهم مهمّشًا، ربما نُسِي اسمه، أو عدد أبنائه؟! فهذه الأمور لا تهمّ، وليست ذات جدوى لدى بعض الآباء.. والأمّهات!

فيعود مهزومًا إلى غرفته المُكتّظة بهمومه، وهواجسه، وكتبه المهترئة في مكتبةٍ بالكاد تصمد أمام صدمات أبنائه وعراكهم لأتفه الأسباب، وبغض النظر عن نظراته، أو عصاه المعلقة كأحلامه وأمنياته المتطايرة في الهواء!

  • لكن ما الحاجة إلى الأمنيات، والوباء ينتشر ويحصد الأرواح تباعا!

لذلك صادر أمنياته القديمة ببناء مسجد، أو حفر بئر كصدقة جارية تضيء قبره؛ بعد قراءته خبرًا بثّته "ناسا" حول اقتراب كوكب شارد من الأرض؛ وكأنّه ينوي الاصطدام بها؛ فشعر بارتياح؛ لأنّ هذا الكوكب سينهي جميع الأمور العالقة! أحلامه المعلّقة، أو روحه! أو عيونه وهي تحدّق في الثريا حين أشار له والده وهو صغير بأنّها أجمل النجوم، واتّفقا على أن يصعدا هناك!

فرفع يديه إلى السماء مخاطباً الكوكب:

-متى ستأتي وتنهي هذا كله؟!

وليأتيه الردّ من زوجته التي وقفت على السطح؛ لغسل سجادة عاثَ فيها الأطفال فسادًا؛ فدخل ماء وصابون في فمه ودفع ثمن التحدث إلى الكوكب سعالا لم ينتهِ إلّا بعد شرب سطل من الماء!

فأكمل أمنيته على هيئةِ حلم، واستيقظ معتقدًا بأنّ الكوكب اصطدم بالأرض، وهو الآن روح مُغادرة، لكن في حقيقة الأمر أنّه يعيش صدمة ارتطام قدم ابنه الصغير برأسه، مخلّفة دوائر طنانة على رأسه أشبه بسحب الانفجارات المستديرة!

مرّت دقيقة كاملة حتّى استوعب حقيقة ما حدث معه، وبدأت الصور أكثر وضوحًا، أبناؤه، وغرفته، وواقعه المرير، فتمنى أن يحصل على وظيفة "مسافر" مع مرتبة الشرف! أو بلا شرف! المهم السفر، الرحيل، ولا تهمّ الوجهة، ولا المكان، ولا قيمة التذكرة، ولا الدرجة إذا كانت سياحية أو لرجال للأعمال!

وربما كان محسوبًا عليهم يومًا ما حين قرر إنشاء أعمال خاصّة بأسرته الفقيرة؛ فقاموا ببيع المعجّنات على طاولةٍ خشبية بعد تغليف الأكلات نصف المحروقة! ونصف الصالحة للأكل!

ففشل مشروعه سريعًا متحججًا بضعف القوة الشرائية، وقلّة مرتادي الشاطئ السياحي! ثم انتقل للميزانية العامّة للدولة، والظروف المعيشية السائدة في الوطن العربي! والعالم! وأخيرًا إلى "ناسا" وقراءة الأخبار الّتي تبثها وخاصّة ذلك الجزء الخاص باقتراب الكواكب والمذنبات والشهب من الأرض!

ويومًا ما قال لأبنائه في اجتماعه الدوري بهم، نهاية كل أسبوع:

-ربما سنموت!

فصرخت زوجته:

-مُتْ أنت أولاً!

-اصمتي!

-لن أصمت بعد اليوم، فهذه ليست المرة الأولى التي تجتمع فيها بأولادي وتقول لهم في اجتماعك الغبي بأنّنا سنموت! هل هذا كلام أب يحبّ أبناءه؟!

-أنتِ جاهلة؟! تثرثرين دون وعي!

-جاهلة.. ثرثارة.. وأنت "الموت" محور كلامك! حدثهم عن الصلاة، عن الاحترام، تدخل في حلّ مشاكلهم.. في احترام بعضهم البعض!

وضع إصبعه على فمه مطالبًا إياها بالصمت؛ فتأففت وغادرت المكان باحثة عن حماتها؛ لتشكو لها الوضع..

بينما تابع حديثه مع أبنائه الستة، وكان أكبرهم في الصف العاشر: ثمة كوكب يقترب من الأرض، وقبل أيام تاه الصاروخ الصيني في السماء وكان احتمال سقوطه على الجزيرة العربية كبيرًا جدّا! فنحنُ عالقون في هذه الحياة المعرضة للخطر، للتلاشي.. للنهاية! وكل ما أريده منكم أن تضعوا احتمال الرحيل نصب أعينكم.. في أي وقت.. في أي لحظة سننطفئ!

-كورونا أيضًا!

-كورونا أيضًا وجه آخر من أوجه الموت.. سنموت جميعًا وأعتذر لكم عن إنجابي إياكم!

فضحك أبناؤه، وقال أصغرهم:

-أمّي أنجبتنا!

-نعم.. فعلاً.. هذا أيضًا منطق؟!

-متى سنذهب إلى الدكان؟!

-انتهى الاجتماع!

فذهب أصغرهم إلى ارتداء حذائه بخطوات بريئة وأقدام صغيرة، وكان يتأمله، وتذكر رفسة ليلة البارحة، لكن من يصدق بأنّ هذه الأقدام الصغيرة تسبب دويًا كدوي المتفجرات في رأسه!

فنادى عليه:

-حمد.

فحمله باحثًا عن محفظته شبه الخاوية؛ فلن تؤثر كلماته عن نهاية الأرض في نظرات زوجته المستاءة بعد معرفتها خواء محفظته، وكيف سيضطرون إلى تدبر أمورهم طوال الشهر، لكنّ الشهر يمرّ وما زالوا على قيد الحياة!

أو كما يقول:

  • عالقون في الحياة؟!

عادا بعد ربع ساعة وكان حمد يحمل كيسًا صغيرًا من الحلويات، وزع نصفها على أشقائه؛ وترك النصف الثاني له، واختبأ في حضن والده عندما أراد شقيقه جَذْبَ الكيس ليأخذ المزيد من الحلوى، بعد أن أكل حصته سريعًا، وليشاركه شقيقه الآخر الجذب لأنّه حصل على قطعة واحدة فقط بينما كان نصيب البقية حصّتين!

لكنّ داوود أبعدَ أبناءه عن حمد، وقال لهم:

  • أصغركم!

فسأله أحدهم:

  • أين العدل؟

فحكّ رأسه! وقال لابنه:

  • حسناً، سأحاول إقناعه بأن يُعطيكم المزيد من الحلوى.
  • دائمًا تقول ذلك، ولا نحصل على شيء!

فصمت عندما اكتشف أنّ حمد التهم النصف الآخر من الحلويات أثناء كلامه مع أبنائه المطالبين بالعدل! والمساواة!

لكنّهم نسوا قصة الحلوى، وتحلّقوا حول حمد ليركب على ظهورهم، مقلدين مشية الحمار وصوته!

انتهت طقوس أبنائه؛ وبعد نومهم أخبر زوجته بأنّه قرر المُطالبة ببيع المزرعة؛ لأخذ حصّته وبناء منزل خاص بهم؛ ضاربًا عرض الحائط بوعد قطعه لأمّه بعدم المساس بالمزرعة!

خاصّة وأنّ المبلغ الذي سيحصل عليه كفيل بحلّ الكثير من مشاكله المادّية.

وفي يوم الجمعة، وبعد تناول وجبة الغداء، قال لهم داوود:

  • أريد نصيبي من المزرعة.

فردَّ عليه أحدهم ساخرًا:

  • ثمن المزرعة خمسون ألفا! احسب حصّتك وسأعطيك إياها وسأضيف ألفًا صدقة من عندي!

فاستعر غضبه من وقاحة شقيقه وتنكره للتضحية التي قدّمها داوود حين ترك الدراسة باحثاً عن وظيفة؛ لإعالتهم بعد وفاة والدهم، وها هم الآن يسخرون منه، ومن فقره، وهمّ بضربه، فحال أشقاؤه بينهما، ليغادر غاضبًا مكفهر الوجه واتّجه إلى زوجته وقال لها:

  • جهزوا ملابسكم.. سنُغادر هذا المكان!
  • ماذا حدث؟
  • لا تناقشيني!

سمع طرقات خفيفة على الباب لامست قلبه.. فتحه ليجد أمّه العجوز باكية على أعتاب باب غرفته:

-    سأذهب معكم.

(النهاية)

تعليق عبر الفيس بوك