مسوخ بشرية (1)

 

رهف هلال العولقي

 

درجة الحرارة توحي بأن الليلة ستكون زمهريرًا، إرهاصات لتيارات هواء باردة كانت متسارعة على غير العادة، انتصف الليل حين عزمت تفاني على الخروج لآخر مرة، فهي لن تعود مُجددًا لتلك الغرفة التي أمست سجنًا يعج بغبار الموت البطيء.

ولدت تفاني في قرية جبلية لم تبرحها منذ ولادتها، سوى حين التحقت بجامعتها بعد شق الأنفس. بيتها الذي كان يملأه صراخ زوجة أبيها، الذي اعتاد على قسوته اللامحدودة، تجمدت في أكنافه كل الموجودات، عدا قلب تفاني الذي كان ينبض بشيء من الدفء والحنان.

كبرت ولم يكن لديها سوى تلك المذكرات التي اعتادت أن تبث شكواها على صفحاتها الحزينة، وأن تفرغ فيها كل ما يجول ويدور في خلدها.

 والدها رجل أصيب بإعاقة شديدة في رجله في حادثة كان على إثرها وفاة أم تفاني، وتسلط امرأة غريبة متجهمة على كل ما تركته لها أمها، التي فقدتها في مرحلة مُبكرة من حياتها المليئة بالنكبات والنكسات.

ملامح الجمال البريء الذي ورثته عن أمها، وعيناها العسليتان اللتان حوتا جمال الكون فيهما، ابتسامتها المشرقة التي حاصرتها غمازتان تظهران على استحياء حينما تتحدث، وتعلنان وجودهما حينما تبتسم لتتجلى في ثغرها أسنان لؤلؤية كعقد منظوم، تلك الملامح اللطيفة الناعمة لم تشفع لها أمام زوجة أبيها المُتغطرسة، والتي لا تنأى عن نعتها بالقبيحة والدميمة، ربما كان ذلك نتيجة الغيرة الأنثوية والتي نزعت آخر ما تبقى في قلبها من رحمة أو عطف.

أنهت دراستها الثانوية بنجاح، فحلقت عاليًا في أجواء من الفرح والسرور، وتدثرت بأمواج من النشوة والحبور، فهي ستُغادر ذلك المنزل القاسي وتستقل بنفسها ولو مؤقتاً، ورغم قلة الحيلة وفقر الحال، إلا أنَّ شعورها بالرضا والارتياح بالتحاقها بالجامعة والابتعاد عن مصدر الألم المستمر فرش لها أرضًا التحفت بسماء الأحلام.

مرَّ شهر بسلام، تعرفت فيه على صديقاتها الجُدد وتعلقت جدًا بالدراسة، وهدأت نفسها قليلًا بعدما انفكت من سياط تلك المرأة التي تنمرت عليها سنوات طوال، بل إنها لم تدعها حتى في غربتها، فقد كانت تزورها طيفاً مزعجاً ينغص عليها أيامها ولياليها بين حين وآخر، لتقض مضجعها مرتسمة في كوابيس ليل لا تنتهي.

اشترت جهاز هاتف نقَّال، ولأول مرة استخدمت وسائل التواصل الاجتماعي، كانت بمثابة حياة جديدة، ونافذة لعالم مختلف، تشعر فيه بالحرية والرحابة والانطلاق. وفي ذات ليلة تلقت رسالة على أحد برامج التواصل الاجتماعي يطلب فيها من المستخدم تحديث البيانات والتسجيل على رابط إلكتروني، فتحت تفاني الرابط وقامت بتسجيل كافة المعلومات والبيانات الشخصية المطلوبة.

وفي ذات يوم يطرق أحد الغرباء المجهولين كافة أبواب برامج التواصل الاجتماعي الخاصة بها، نفس الاسم ونفس المُعرِّف، تجاهلته تفاني بادئ الأمر، إلا أنه لم يتوانى أو يتوقف عن إرسال أشعارٍ وعبارات جميلة استلطفتها تفاني، فما ضير ذلك! طالما وتلك العبارات تجعلها تشعر بالسعادة.

توالت الأيام، وأصبحت تنتظر ذلك الشخص الخفي الذي ملأ حياتها دفئاً وحيوية، بل أصبحت تحكي له ما كانت تسرده على أوراق مذكراتها، ويوماً بعد يوم زاد تعلقها بذلك الوميض الدافىء والغريب.

تطورت تلك العلاقة فأفصحت عن اسمها وعمرها وكل تفاصيل حياتها، وكذلك فعل هو، وقدم نفسه كشاب ثلاثيني موظف ويعيش مستقلاً، فكان أحن عليها من أقرب الناس لها، ورويدا رويدا بدأ يطلب رؤيتها.

-"تفاني لا أعرف ما أقول!  ولكن روحاً جميلة كروحك هذه تستحق أن تكون أميرة حقيقية."

-"شكرا يا سالم لا أعرف كيف كانت ستكون حياتي بدونك."

-"أنا معك ولن أتركك تعودين لتلك العجوز الشمطاء الشريرة."

-"أحمد الله أني صادفتك وتعرفت عليك قبل فوات الأوان"

أجهشت تفاني بالبكاء متأثرة بكلام سالم المعسول، ولكنه اختفى يومين فجنَّ جنونها، كان قد ترك رقم هاتفه تحسباً لأي ظرف، ترددت كثيرا في الاتصال لكنها لم تقو على غيابه فاتصلت به.

-"سالم أين أنت؟! أقلقني كثيراً غيابك."

-"هل حقاً قلقت علي يا غاليتي؟"

-"حسنا.. ااااااا.. .نعم . ..نعم، لا استطيع أن يمضي يوم دون أن أتحدث إليك، أو أسمع صوتك."

-"تفاني أرغب برؤية وجهك الملائكي."

-"تراني؟"

-"نعم أريد أن أرى ألطف وأروع مخلوقة في هذا الكون."

صمتت لدقيقة ثم قالت:

- "حسناً. .. سأرسل صورة لي."

بدأت ترسل له صورها وكذلك يفعل هو، ولكن بعد أيام من تلك الليلة، انتهى الفصل الدراسي الأوَّل وكان لزاماً عليها أن تؤوب إلى قريتها، هاتفها سالم:

-"تفاني أريد أن أُقابلك ياعزيزتي."

-"لا استطيع يا سالم، فأنا لا أخرج إلا مع صديقاتي."

-"ولكني أحبك، وأريد أن أراك قبل أن تُغادري وأسلمك هديتك قبل العودة."

-"سالم لا استطيع،...لا استطيع ذلك."

سالم مصر جدًا على موقفه، ويكرر لها مرارا وتكرارا رغبته الجامحة في رؤية جمالها الأخاذ،

تتأثر تفاني أكثر وتدخل في موجة من البكاء؛ لأنها لا تملك قرار الخروج لوحدها، إلا أنه لم يتوانَ عن الإلحاح:

-"أريدك أن تخرجي من السكن غدا وسنقضي الليلة عندي وسأوصلك بنفسي لمحطة المركبات".

-"ماذا تقول يا سالم؟ لا استطيع فعل ذلك أرجوك، أرجوك...

هنا تغيرت نبرة سالم فأصبح أكثر قسوة وصرامة وقال:

-"اتركي عنك هذا التَّغابي، غدا لن تذهبي للكلية وسأنتظرك عندها، وسوف اصطحبك معي، وانتهى الأمر".

يتبع...

تعليق عبر الفيس بوك