قهوة

 

فاطمة إسماعيل اليمانية **

"لا أحتاج شيئًا خارقًا، فقط قهوة معك؛ لأقول لك الرماد الذي في داخلي" واسيني الأعرج.

---

ليست مجرد قهوة!

كانت سبب قطيعة وشجار بين شذى وحماتها؛ عندما قدّمت شذى كوبين كبيرين من القهوة، وقطعتين من كعكة التمر بالشوكولاتة لضيافة جارتهم أم عدنان.

ناولت الضيفة كوبًا ثم قدمت الآخر لحماتها التي شرقت، واستنكرت طعمها ساخرة:

  • ما هذا المحلول؟

فاستاءت شذى من سخرية حماتها، ورفعت حاجبها الأيمن غاضبة:

- ماذا ترين؟

- أرى أنّكِ في حاجة إلى إعادة تربية!

- أعيدي تربية ابنك أولًا!

وكان ابنها كلما سمع صوت عراك والدته وزوجته، هاتَفَ صديقه عدنان؛ ليهربا إلى أي مكان بعيدًا عن البيوت.. ونساء البيوت.. ومشاكل البيوت التي لا تنتهي! وفي قرارة كل واحد منهما أنّ الهروب في مثل هذه المواقف رجولة!

وتأسفا طويلا على الزواج والارتباط، وتناولا الكثير من القهوة والتمر في عزبة صديقهما البدوي صالح.

كان صالح يقذف بحجر أيّ تيس ينطح السور أو شجرة السدر المشوّه جذعها بسبب نطحات التيوس المتتالية.

قال عدنان:

  • هذا التيس عنيد!

وأردف طلال:

  • سمين.. لذيذ جدًا في التنور.

فقال صالح مستبعدًا فكرة ذبحه:

  • ولا تحلم!

ردّ عليه طلال:

- حتّى أنت تصادر الأحلام؟

- قلت أحلام.. فكيف أصادرها؟!

ابتسم طلال، ثمّ أسند ظهره للجدار وحدّق في الأفق وتذكر زوجته مريم، وكيف تركها؛ لأنّها جاهله كما يسمّيها، وزاد انتقاده لجهلها بعد التحاقه بدورة تدريبية تابعة لجهة عمله؛ فأخذ يُركز كثيرًا على تصرفاتها، أو تخلّفها، وكيف أنّه لم يراها منذ زواجه بها تقرأ كتابًا، أو تُبدي رأيها في مسألة علمية، أو ثقافية! رغم أنّها واصلت دراستها للمرحلة الثانوية.

وعندما التقى بشذى اكتشف أنّه وجد ضالته، وبأنّها فتاة الأحلام، والزوجة التي سيكمل باقي عمره معها، شذى المثقفة الأنيقة الجميلة التي تتحدث الإنجليزية بطلاقة، وسافرت إلى معظم بلدان العالم. 

فهجر مريم وتعاويذها المُعلقة في غرفة النوم لصدّ الحسد، وماء الرقية والبخور المشبع باللبان والسوداء[1]، مؤثرا حياة جديدة اسمها الحب، والتفاهم، بعد دخوله في معركة مع والدها الذي رفض مصاهرته في البداية؛ لأنّه ليس من طبقتهم الاجتماعية! لكنّه اعتبر الزواج من شذى معركة يجب الانتصار فيها! وعندما حصل على الموافقة تخلّى عن مريم ببساطة، وأرسل لها:

  • أنتِ طالق!

تركها وهي تُحدّق في التمائم، والتعاويذ، وتعتقد بأنّها أخطأت في طقس ما من طقوس جلب الحبيب، أو أنّ جميع هذه الطقوس مجرد خدعة، وذُهلتْ عندما اكتشفتْ أنّ لها عقلا يفكر، ويرفض، ويجادل، وتساءلت:

  • أين كانت الجن عندما كان يذهب لأهل العروس، ويتفق على تفاصيل الزفاف؟ وكيف لم يعترض طريقه أحد الشياطين؛ فيكسر قدمه؟ أو يصيبه بمس أو جنون؟!

وعندما أرسل لها طلال معتذرا عمّا سببه لها من ألم بسبب الطلاق، طرحت عليه نفس السؤال:

  • هل يوجد سحر من الأساس؟!

فحدّق في الرسالة، وفي رقم المرسل، وأعتقد أنّها غيرت الرقم أو ربما نصّ منسوخ عَبَر رسائلها؛ أرسلته سهوا!

لكنّه لم يُدقق كثيرًا، بل عاد إلى شذى، وحياته الجديدة مع شذى، والجنّة الموعودة!

أفاق من أفكاره على صوت عدنان:

  • هيّا لنذهب..

عادا إلى المنزل، وتسلل إلى غرفته؛ لتطل والدته من نافذة غرفتها:

  • لماذا تأخرت يا طلال؟!
  • كنت في العزبة.
  • شذى حملت حقائبها، وغادرت.
  • تصبحين على خير أمّي!

فتح باب غرفته، أضاء الأنوار، وأغلق أبواب الخزانة المشرعة، هذه المرة لم تترك شيئا.. حملت جميع ملابسها، وعطرها، ولم تترك إلّا زجاجة عطر أحضرها هدية لها، فقالت له:

  • شكرا.. لكنّني نبهتك بألّا تحضر لي عطرا أبدا من هذه الشركة؛ لأنّها تُضيف إلى العطور موادا صناعية تُهيّج الأعصاب، وتُثير الحساسية!

ثمّ قلبت الزجاجة، وقرأت الكلمات المكتوبة باللغة الإنجليزية، وبدأت تشرح معنى الاختصارات، ونسبة تركيز بعض المواد، وتأففت، وقالت:

  • لذلك يبيعون العطور بأسعار رخيصة!
  • رخيصة؟!
  • نعم رخيصة بالنسبة للعطور التي تنتجها شركات عريقة!
  • قيمة هذا العطر أربعون ريالًا!
  • قيمته الأصلية عشرون ريالًا، ورفع الأسعار من باب التدليس على المشتري، ثم نهضت من مكانها، ووضعت زجاجة العطر خلف زجاجات العطر الباهظة الثمن؛ لأنّ زجاجات العطر مقامات كالنّاس تماما؛ فشعر طلال ليلتها بالطبقية، والدونية، كلّما نظر إلى زجاجات العطر، ثم شعر بتأنيب الضمير؛ لأنّه اشترى لها عطرا، ثمّ بتأنيب الضمير؛ لأنّه تزوج بها!

شذى التي لفتت انتباهه بأناقتها، وطلاقة لسانها، وطريقة تقديمها للقهوة التي عشقها ووجد في طعمها معبرا للتغير، والتجديد، وإكراما لها أخذ يشربها بشراهة، ويمتدح جميع الأصناف التي تقدمها له؛ ليؤكد أنّه مثلها تماما، متحضر، راق، وعلى دراية تامّة بجميع الأصناف التي تقدمها المقاهي العالمية، وهي نفسها القهوة التي سببت زوبعة في البيت كما تسبب دائما!

  • القهوة.. القهوة!

عندما كانت تقدم للجارات كابتشينو، أو نسكافيه بنكهة البندق، أو المشمش! ويرفضن تناولها؛ فتعتقد بأنّهن يتعمدن إحراجها، ولا تتوانى عن التحديق في وجوههن بنظرات مشابهة لنظرات القط المتأهب للدخول في معركة!

لذلك وصفنها بالمتغطرسة ووصفتهن بالمتخلفات ذوات العقول البالية، وقالت لهن في يوم من أيام التراشق:

- عقولكن مربوطة بألسنتكن، فلا تتجاوزن النكهات التقليدية، كالهيل، والقرنفل، والزعفران، الزعفران المغشوش!

- مغشوش؟ وكيف عرفتِ أنّه مغشوش؟

- مغشوش، ويسبب السرطان!

ضحكت الجارات من كلامها، ودخلت غرفتها لتقابل طلال وتكمل حديثها عن نظرية الزعفران المغشوش الّتي اخترعتها، وربطت بين جميع الأمراض والأسقام بتناول الزعفران المغشوش، في القهوة بالذات! ناسفة جميع استخدامات الزعفران في الحياة اليومية!

ومدهوشة من رفض حماتها، والجارات، شرب القهوة بالبندق والمشمش، حيث ترتفع قيمة القهوة الغذائية، وتتجاوز مسألة الخطورة فتصبح أكثر أمانًا، بما فيها من منكّهات طبيعية!

رغم ذلك لم تكن شذى تتعمد التغطرس، أو أن تدخل في عراك مع حماتها، وجاراتها، بل هي ابنة بيئتها، ونشأت في عائلة تشجعها على عرض رأيها بكل أريحية، بل تعتبر الصمت ضعفا، وعيبا!

كما أنّ مريم ابنة بيئتها، البيئة الغارقة في الطقوس، والجن، وطاعة الزوج طاعة عمياء؛ لذلك لم تكن ترفض أي شيء يقدمه لها، ولم تكن تشتهي شيئا أبدا! ولا يذكر أنّها قالت له يومًا ما أنّها ترغب في تناول طعام معين، أو تريد عطرا أو ثوبا أو هدية كما تفعل بقية الزوجات! فأي شيء يجود به طلال يُبهجها، ويثير سعادتها؛ لتغرقه بوابل من الدعوات، كما تغرقه شذى بوابل من الانتقادات التي لا تنتهي:

  • سلبي.. متخاذل! جبان!

كانت مريم مستسلمة تمامًا، وقدرتها على قول كلمة حاضر، تساوي قدرة شذى على قولها:

  •  آسفه، لا أستطيع!

وصلته رسالة من شذى:

- طلقني!

- طالق.

كانت آخر رسالة بينهما، وفي الصباح الباكر، خرج من غرفته، وقبّل رأس والدته، وتناول الدلّة؛ ليشرب فنجانا من القهوة على طريقة والدته!

 

(النهاية)

 

** كاتبة عمانية

 

[1] حبوب سوداء مستديرة صغيرة تباع في محلات العطارة، وتدخل في تركيب البخور الذي يعدّ لطرد الحسد والعين والأرواح الشريرة.

تعليق عبر الفيس بوك