انتصارٌ يُمهِّد للسلام

حاتم الطائي

انتصرت المُقاومةُ الباسلةُ في فلسطين الأبية، نجح المدافعون على الأرض في فرض كلمتهم وإجبار العدو على التَّراجع ورفع الراية البيضاء، بعد سلسلة من الهزائم المُذلّة على مدى 11 يومًا كانت وبالاً على الاحتلال الإسرائيلي، الذي خاض المعركة بعجرفته المُعتادة وزعمه الكاذب بأنَّه يملك "الجيش الذي لا يُقهر"، إلا أنَّ الشرفاء ممن وضعوا أرواحهم على أكفهم استطاعوا مُواجهته بكل قوة وعنفوان، ليكتبوا شهادة نصرٍ مؤزرٍ جديدٍ، يُضاف إلى الانتصارات المُظفرةِ السابقةِ.

أيام معدودات ردَّت فيها المُقاومة الفلسطينية على العدوان الغاشم أولاً على المصلين الركع السجد في الحرم القدسي الشريف، تزامناً مع قضية إخلاء العائلات الفلسطينية من حي الشيخ جراح في القدس الشرقية المُحتلة، والسماح لمستوطنين مغتصبين بانتزاع الأرض منهم، ومن ثمَّ انتقل العدوان إلى قطاع غزة، بعدما باغتتهم المُقاومة بصواريخها الماحقة ردًا على ما يُعانيه إخوانهم في القدس الشريف. وكانت المُفاجأة سقوط وابلٍ من الصوريخ يوميًا على مدن الاحتلال، حتى وصلت الصواريخ إلى عقر دار المُحتل في تل أبيب، وما أكثر الصور ومقاطع الفيديو التي عجَّت بها وسائل الإعلام والتي تُظهر الرعب الذي غرسته صواريخ المُقاومة في نفوس المحتل الإسرائيلي؛ حيث هرع الآلاف من الإسرائيليين إلى الملاجئ والمخابئ التي أعدَّها المحتل تحت الأرض وفي مناطق شديدة التحصين، فيما واجه الفلسطينيون العُزل قذائف الاحتلال بصدور عارية وعيون لا تخاف. ورغم فارق العدة والعتاد والتقنيات المستخدمة لدى جيش الاحتلال، إلا أنَّ المقاومة استطاعت أن تُبرهن على حقيقة يعلمها أهل الحق وينكرها أهل الباطل، وهي أنَّ أصحاب الحقوق لا يهابون الموت، والمدافعون عن الأرض مستعدون للتضحية بأرواحهم وبكل ما يملكونه من أجلها..

الأحد عشر يومًا التي سطرت فيها المقاومة ملحمة غير مسبوقة على مدى عقود هذا الصراع الممتد منذ 73 عامًا، كشفت لنا عن عدد من النقاط، نوردها كما يلي:

أولًا: التطور النوعي لسلاح المُقاومة، فقد كشفت لنا هذه المعارك أنَّ المقاومة الفلسطينية نجحت في تطوير سلاح محلي الصُنع، بخامات ومواد أولية بسيطة وربما تكون بدائية للغاية، غير أنَّها استطاعت من خلالها أن تقذف الرعب في نفوس الأعداء وترهبهم أشد ترهيب، وجعلت العالم يقف في دهشة وذهولٍ من هول الصواريخ التي كانت تسقط بالمئات في ساعات محدودة، حتى إنَّ صافرات الإنذار لم تتوقف في بعض الأحيان، كما أضاءت صواريخ المُقاومة سماء الأراضي المحتلة، وأظهرت مدى تفوّق هذا السلاح النوعي، في مُواجهة منظومة الدفاع الجوي الإسرائيلي المعروفة باسم "القبة الحديدية" والتي ظل المُحتل يُفاخر بها باعتبارها منظومة "لا تفشل"، إلا أنَّ الواقع أثبت أنها فاشلة في التصدي لكل صواريخ المقاومة.

هنا نتحدَّث عن عودة "توازن الرعب" بين المُقاومة الفلسطينية وجيش الاحتلال الإسرائيلي، فقد ظنَّ المحتل أنَّه من خلال الحصار الظالم لغزة والسعي المُتواصل لإفقار القطاع وإبقائه معزولاً عن العالم الخارجي، قادر على إلحاق الهزيمة بالمُقاومة، وفي المُقابل أثبتت المقاومة ذكاءً منقطع النظير في الاستفادة من مُخلفات العدوان الإسرائيلي السابق ومن المُخلفات الحربية وإعادة تدويرها في مصانع سرية لم يتمكن جهاز الموساد ولا الشاباك الإسرائيليين من اكتشافها.

ثانيًا: عودة القضية الفلسطينية مُجددًا إلى صدارة المشهد العربي، وذلك بعدما ظنَّ البعض أنها لم تعد قضية العرب المركزية والأولى؛ إذ تسببت حالة السيولة السياسية وانهيار بعض الأنظمة في الدول العربية الكبرى، والثوران السياسي المشتعل في أقطار أخرى، إلى انكفاء دول المنطقة على نفسها لمعالجة قضاياها الداخلية ومحاولة إعادة بناء الدولة الوطنية مجددًا. الأحداث الأخيرة برهنت على أنَّ فلسطين ما زالت في قلب الوجدان العربي والإسلامي، ولم تتزحزح قيد أنملة من مكانتها الكبرى في نفوس الشعوب الرافضة للمُحتل الغاصب، وما شهدته عواصم الدول حول العالم من تظاهرات مناهضة لإسرائيل وداعمة للشعب الفلسطيني خير دليل على ذلك.

ثالثًا: الدور الإيجابي لوسائل التواصل الاجتماعي، فرغم الانحياز السافر لهذه المنصات الرقمية، وعلى رأسها تويتر وفيسبوك وإنستجرام، لصالح المحتل الإسرائيلي، والسعي الحثيث من جانبها لإخفاء التغريدات والمنشورات المُتعلقة بدعم القضية الفلسطينية وإظهار مدى الجُرم الذي يرتكبه الاحتلال، إلا أنها قامت بدور إيجابي للغاية من خلال ما نشره النشطاء عبر حساباتهم للتوعية بهذه القضية؛ إذ إن جيلاً كاملاً غابت عنه هذه القضية، وربما لم يسمع يومًا عن فلسطين طيلة الأعوام العشرة الماضية، وقد شاهدنا كيف تفاعل الجيل الجديد مع الأحداث وتلقى جرعة معرفية ثرية حول الحق الفلسطيني ومدى الجور الإسرائيلي بدعم وغطاء من الغرب.

ومع إعلان الهدنة ووقف إطلاق النار، لا يجب أن نغفل الدور البارز للدبلوماسية العربية والدولية في هذا الصراع، وهو ما يؤكد أننا قادرون على إحلال السلام الشامل والعادل بالطرق الدبلوماسية، والحق نقول إنَّ دولا إقليمية على رأسها مصر قادت جهودًا مضنية منذ اللحظات الأولى لانفجار الوضع، وكذلك الدور الأمريكي- الذي رغم انحيازه لإسرائيل- إلا أنه استطاع إقناع الإسرائيليين بالمبادرة المصرية، التي أوقفت نزيف الدم. ولذلك ينبغي الاستفادة من هذه الجهود الدبلوماسية، لإرغام إسرائيل على العودة إلى مائدة التفاوض مرة أخرى، والجلوس مع الأطراف الإقليمية والدولية الفاعلة لإنهاء هذه المأساة، وفرض حل الدولتين، وخيرًا قال الرئيس الأمريكي جو بايدن بأن قيام الدولتين هو الحل الوحيد لبسط السلام في الشرق الأوسط. لكن هذا يتطلب إرادة دولية حقيقية، لا إرادة مهتزة تلعب بمصالح الشعوب، وتتاجر بقضاياهم، وتقتات على جثث الضحايا، وتُنعش الاقتصادات بصفقات التسليح المليارية. السلام يتطلب من الشعوب الحرة والحكومات المستقلة المنحازة للحق أن تقف وقفة رجل واحد في مُواجهة أي "فيتو" ظالم.

وختامًا.. الحق الفلسطيني آتٍ آتٍ لا محالة، والنصر موعدنا جميعًا، والمحتل لن ينجح في فرض إرادته الجائرة إذا ما تصدى الشرفاء له، ودافعوا عن فلسطين وفي القلب منها القدس، فعيوننا إليها "ترحل كل يوم.. في أروقة المعابد.. تعانق الكنائس القديمة.. وتمسح الحزن عن المساجد".