قراءة في كتاب الباحثة حنان حمودا

"الماء وصناعة المقدس".. رؤية أنثربولوجية لظاهرة كلية ومفتاح لتفكيك البنيات الاجتماعية والثقافية

...
...

مسقط - الرؤية

تنشر "الرؤية" قراءة في كتاب "الماء وصناعة المقدس" للباحث الحسين المعاطشي عضو فضاء الوساطة،  وهو طالب باحث في جامعة محمد الخامس،  وذلك  ضمن الصالون الأكاديمي الذي ينظمه فضاء الوساطة في إطار أمسيات السمر الرمضانية.

وكتاب "الماء وصناعة المقدس" من تأليف الباحثة حنان حمودا، أستادة السوسيولوجيا بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بجامعة محمد الخامس بالرباط في المغرب.

ويقع الكتاب في 380 صفحة من الحجم المتوسط والصادر عن منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية بجامعة محمد الخامس. ومن المفيد الإشارة إلى أن الكتاب في أصله بحث لنيل الدكتوراة في السوسيولوجيا. وقد أطر النشاط الأستاذ عبد الفتاح الزين رئيس فضاء الوساطة. كما شارك في في تقديم قراءة له كل من الأستاذة الباحثة عائشة حليم (كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالجديدة) والأستاذ الباحث محمد خالص(كلية الآداب والعلوم الإنسانية ببني ملال).

وتابع النشاط جمهور من الأكاديميين والباحثين الشباب إلى جانب عدد من المهتمين والإعلاميين والذين ساهموا في المناقشة العامة التي تلت قراءة الأستاذين للكتاب موضوع النشاط، وتعقيب الأستاذة الباحثة. وتم هذا النشاط عن بعد عبر تطبيق زووم كما تم نقله عبر الفايسبوك على صفحة فضاء الوساطة.  وانطلق اللقاء عبر تقديم الأستاذ المنسق للكتاب وضيوف الجلسة؛ حيث شدّدعلى أهمية موضوع الكتاب سواء من الناحية العلمية أو في ارتباط بالتحديات التي تعيشها البشرية اليوم.وأشار إلى أن هذا العمل الأكاديمي قد أثرى الخزانة العلمية المغربية والعربية بموضوع قلت معالجته بالنظر لراهنية التحدي على المستوى العالمي مصرحا - اعتمادا على عدد من الدراسات والاستشارات والتقارير الدولية - بأن الحروب القادمة ستكون "حروبا حول الماء"،وقدم مثالا على ذلك بالتوتر الذي تشهده منطقة وادي النيل والأمة السياسية التي طرحها بين كل من مصر والسودان وإثيوبيا. كما شدد على أن مفهوم وتيمة المقدس لا تنحصر في المقدس الإسلامي فقط بل إنهاتغطي كل التعددية السوسيوثقافية المكونة للمجتمع المغربي بمسلميه ويهوده، وأمازيغييه وعربه ومختلف الروافد التي ساهمت في تشكيل نسيجه المجتمعي الغني بهذه التعددية والتي دونها لن يكون ما هو عليه وبما هو كذلك.

كما وقف عند مفهوم "صناعة المقدس" باعتبار أنه في كل المجتمعات وعبر التاريخ ليس كل مقدس من صلب العقيدة بل إن العقيدة نفسها تخضع إلى تأويلات قد تفضي إلى نشأت ملل ونحل وفرق، وتنتج عنها من خلال الممارسات الاجتماعية أعراف وتقاليد وطقوس تساهم في تأطير الفكر الجمعي في تنوعه وتشكل اختلافاته.

بعد ذلك، أعطى الكلمة لضيوف الجلسة، والذين جاء مداخلاتهم كالتالي : 1) قراءة الأستاذ الباحث محمد خالص للكتاب : بدأ الأستاذ الباحث مداخلته بشكر فضاء الوساطة في شخص رئيسه عبد الفتاح الزين على تنظيمه لهذا الصالون الأكاديمي الذي اعتبره فضاء للحوار الهاديء والرصين، وفرصة لإسماع صوت العلوم الإنسانية والاجتماعية والسوسيولوجيا والأنثربولوجيا منها على الخصوص، كما رحب بدعوته لتقديم قراءة لكتاب مهم، أثرت صاحبته البحث العلمي عموما والمغربي منه على الخصوص. 

وتوزعت ورقته على أربعة محاور أطّرت تقديمه للكتاب : أولها "توجيه قرائي"،وثانيها هندسة الكتاب, ثم أسباب مناولة الكتاب، وأخيرا رباعية الماء والمقدس .  وهكذا، قسّم المحور الأول إلى ملاحظتين : في الملاحظة الأولى، ركز على تقديم للكتاب باعتباره في الأصل بحثا لنيل شهادة الدكتوراه. وفي هذا الصدد، شدّد على أهمية الأطروحة ضمن البحث العلمي بالمغرب من جهة، وأشاد بطبعها ونشرها على شكل كتاب لكي لاتبقى حبيسة اطلاع أعضاء لجنة المناقشة التي ناقشت البحث ورفوف مكتبة الكليةبل إن نشرها يساهم في التعرف عليها وامتلاك جمهور واسع من القراء ليستفيدوا من مخرجات هذه الأطروحة وهو ما يشكل نوعا من انفتاح الجامعة على محيطها. 

بينما شدّد في الملاحظة الثانية على أن قراءته النقدية ليست بالمعنى المعياري للنقد بل من أجل إنضاح متعة القراءة لدى القارئ المهتم منه أو القارئ الذي ينشد تثقيفا ذاتيا. 

أما في الملاحظة الثالثة، فقد اعتبر أن تقديم قراءة للكتاب هو تثمين وتقدير للجماعة العلمية مع الاعتراف بما يمور به حقل البحث العلمي من اهتمامات جديدة، وأنه ليس على الباحث أن يكون مشهورا أو "نجما" معروفا لتقديم كتابه بل نحن في حاجة لقراءة بعضنا البعض من أجل النهوض بالمدرسة المغربية في البحث كأحد أهم روافد البحث العربي عموما.

وفي المحور الثاني الذي خصصه لهندسة الكتاب؛ حيثقدم الأستاذ القارئ الكتاب شكلا لتقريبه للقارئ، ومضمونا مركزا على محاوره الأساسية. وهكذا رأى من خلال قراءته الخاصة للغلاف أنه يشتمل بالإضافة على نص تقديمي في خلفيته، نجد في صفحته الأولى صورة دالة على موضوعه تمثل واحة بجميع مكوناتها من ماء في الواجهة مع نخيل على ضفاف مجرى الماء، ويليها تجمع عمراني يمثل من خلال نموذجه العمراني قصبة تشير إلى نموذج المعمار السكني بالواحات جنوب المغرب.وهو ما جعله يقول بأن هذه الصورة باعتبارها تدل على الصفاء الوضوح والخير والعطاء تعد ناجحة في نظره لاستقطاب انتباه القارئ. وهذا يدخل ضمن مقومات جودة صناعة الكتاب في مجال الطبع والنشر .

ثم أشار إلى أن الكتاب يتكون من 7 فصول لكن الكاتب رأى أن هذه الفصول يمكنإدراجها في ثلاثة نقط كبرى : المقدمة تم فيها الحديث عن موضوع المؤلَّف، والفصول الثلاثة الأولى ضمت المنهجية، والعمل الميداني، وتقديم مجتمع الدراسة، ثم الثلاث محاور الأخيرة كانت عبارة عن مخرجات الدراسة الميدانية.

 في المحور الثالث تحدث عن أسباب تأليف الكتاب. وهو حديث عن الشروط التي دفعت الباحثة إلى كتابة الكتاب. والتي رأى أن من أهمها الشرط العلمي لموضوع الكتاب، ثم تعدد التخصصات التي تميز البحث في هذا الموضوع وتداخلها بالإضافة إلى استنتاجاتها.

وخلص الأستاذ الباحث محمد خالص إلى أن كتاب الأستاذة الباحثة حنان حمودا عالج موضوع الماء من زاوية أنثربولوجية باعتباره ظاهرة كلية أي أحد المفاتيح لتفكيك البنيات الاجتماعية والثقافية لمجتمع الدراسة. فالماء يسمح بما تستتبعه من طقوس وتراتبيات اجتماعية يعتبر أحد عوامل إنتاجها ومن حيث أهميته كمورد حيوي بدراسة سيرورة بناء الهوية الثقافية.

وأشار إلى أن المقاربة الأنثربولوجية من خلال التشديد على شرطها المنهجية تساعد على فهم خبايا المجتمع والتي تنبع من الماء الذي يختزل تمثلات وتصورات الفاعلين والموزعين، ويظهر طبيعة العلاقات والتوازنات والتراتبيات في المجتمعات الواحي. 

كما تطرق المتدخل إلى الطقوس المحيطة بالماء والمحتفية به والتي أولتها الباحثة قدرا كبيرا من الاهتمام في تحليلها من قبيل تاغنجا أو عروس الماء، وغيرها من الأعراف والتقاليد؛ حيث رأى أن هذه الطقوس داخل الزمن الفلاحي تعد امتدادات تمثُّلِيَّة للإنسان والحيوان. 

وفي المحور الرابع والأخير في مداخلته أشار إلى أن استنتاجات الباحثةيمكن تلخيصها في أربع نقط: الماء،  والتنظيمات التقليدية-  الماء وإنتاج التراتبية الاجتماعية- الماء والتنظيم الاجتماعي- الماء والعلاقات الإنتاجية. 

واختتم الأستاذ الباحث قراءته للكتاب بالتشديد على أهمية هذا العمل بحثا وتأليفا شجعا الباحثة على المزيد من البحث والعطاء وداعيا الباحثين الشباب بالانكباب على دراسة هذا الموضوع والنظر في إغناء استنتاجات الباحثة. 

وتناول بعد ذلك الكلمة منسق الجلسة. وحاول بدوره تلخيص المداخلة السابقة مع تقديم مجموعة من الأفكار قصد إغنائها. ولعل أهمها أن الاهتمام بدراسة موضع الماء بالواحات والأرياف المغربية لا يجب أن ينسينا أهمية الماء كمورد ضروري في تواجد تجمعات سكنية والحضرية منها على الخصوص. ونبّه على أن تنظيم الماء في المدن المغربية خضع لحكامة مضبوطة؛ حيث أن مد المنازل والأحياء بالماء سواء عبر السقايات في الأماكن العامة وبالمنازل التي شكل فيها وجود الماء عنصرا من عناصر جماليتها المعمارية؛ إذ نجد النافورة أو الفُسقية تتوسط دائما وسط باحة المنزل (وتسمى في المغرب المرح أو السَّطوان وتزينها حديقة داخلية) والذي كان يجعل من المنزل التقليدي منكفئا على داخله.

وأوضح أن المدن المغربية سبق  مثيلاتها الغربية في التزود بالماء لقضاء الأغراض المنزلية؛ حيث توفرت المنازل في كبريات المدن المغربية منذ العهد الموحد (القرن الثاني عشر الميلادي) على الماء من خلال شبكة كان يسهر عليها "معلّمون"مهرة لهم دراية هندسة الربط وفق خرائط مضبوطة. وكانوا منظمين في حَنْطَة (هيئة مهنية تقليدية) تحت إشراف أمين يراقبه محتسب. وكان يساعدهم في ذلك صناع الفخار الذي كانوا يهيئون لهم قوالب مخصصة لمد القنوات وإصلاح أعطابها.

وأعطى مثالا على ذلك بمدينة الرباط التي لازالت بعدد من أحيائها آثار قناة توصيل الماء المنطلقة من عين اعتيق (وتسمى أغبولة) من جهة الصخيرات والتي تمر عبر الأحياء الحالية بكل من تمارة والسويسي وحي الرياض فحي يعقوب المنصور إلى أن تصل من جهة باب لعلو أعلى نقطة في المنحدر الذي توجد به المدينة القديمة بالرباط.

وختم بأن دراسة هذه الجوانب المتمثلة بالتدبير والهندسة والحكامة كفيلة إلى جانب دراسة مقارنة مع يقع في البوادي المغربية والواحات كفيل بإعطائنا صورة عن الحضارة المغربية والاستلهام منها سواء في صيانة التراث أو النهوض به أو استلهامه. 

بعد ذلك اعطى الكلمة للأستاذة الباحثة عائشة حليم بعد التعريف بها لتقدم قراءتها لهذا المؤلَّف. 2) مداخلة الأستاذة الباحثة عائشة حليم : نظرا لبعض المشاكل التقنية في الصبيب، أرسلت الأستاذة مداخلة صوتية إلى جانب مداخلتها المباشرة. ومن خلالهما سنقدم أهم ما جاء في قراءتها لكتاب "الماء وصناعة المقدس" التي استهلتها بشكر فضاء الوساطة على تنظيم هذا الورش الفكري المنفتح على جمهور المختصين والمهتمين داخل وخارج المغرب.

وانصبت مداخلتها حول ثلاث إشكاليات ارتأت أنها أساسية، وصنفتها كالتالي : أولا الماء، ثم أشكال التنظيم،وأخيرا الثقافة المحلية والتي تناولتها عبر أعراف القبيلة وعاداتها والتحولات التي شهدتها على مدار التاريخ.

وفي هذا السياق، نوهت بصمود القبيلة القوي المرتبط بإشكالية الماء وندرته في الواحات، وعلى استراتيجيات الاستمرار في الواحة في ظل ندرة أهم مورد للعيش ألا وهو الماء. كما أنها ثمنت الدراسة والتحليل الأنثربولوجيين للموضوع، واللتين تم فيهما إيلاء الأهمية للمعرفة المحلية وما تزخر به الجماعة المحلية كأحد التنظيمات المؤطرة للقبيلة من ممارسات في تنظيم الماء على ندرته، وتبلور من استراتيجيات في حالات التضامن أو من أجل حل النزاعات. وتوقفت عند ثالوث "الطقس، والماء، والمقدس" المرتبط أساسا بالعنصر البشري؛ حيث ركزت الباحثة - الدكتورة حليم - على محاولتها دراسة الماء في واحة سكورة  و تحديدا دوار "أولاد اعميرة"، وكيف يتم استعمال هذا الماء؟ وما هي أشكال الصراع وأشكال التضامن التي بلورتها هذه المادة الحيوية؟

وفي سياق الإجابة عن هذه الأسئلة، أشارت إلى أن الأستاذة حنان توقفت   عند الجانب الطقوسي بشكل كبير جدا لأنه الجانب الذي يؤطر بشكل عام العلاقات بين مستعملي الماء وكذلك مع الماء نفسه كمورد والذي يظل موضع تنافس وصراع. كما أن الجانب الطقوسي ينعكس حتى على طبيعة العلاقات الاجتماعية المنتشرة داخل الدوار موضوع الدراسة. وأشارت الأستاذة حمودا إلى أهمية وثقل الممارسات الطقوسية سواء المرتبطة بالماء بشكل خاص أو بعلاقة الماء مع الزارعة عموما. لكنها ركّزت في دراستها على طقوس معينة دون إهمال التسلسل والترابط الذي يجمع بينها من قبيل طقس"تاغنجا"  كطقس منتشر في مختلف مناطق المغرب غير أنه في واحة سكورة يأخذ طابعا خاصا نظرا لارتباطه  بمسألة الندرة  وحضوره في مجتمع متعدد يتعايش فيه المسلمون واليهود عربا وأمازيغ إلى جانب بعضهم البعض إلى جانب علاقة هذا الطقس بالخصوبة؛ إذ هناك مجموعة من الطقوس المرتبطة به  والتي يبرز فيها العنصر الأنثوي بشكل واضح جدا. 

وقدمت المتدخلة مجموعة من الطقوس الأخرى والمرتبطة بطقس الاستسقاء (طلب المطر أو الغيث). ومن بينها زيارة الولي الصالح "سيدي أحمد بناجي" في علاقة بضريح الزاوية الذي يحتضن هذا الطقس، لكنه يظل طقسا ذكوريا بامتياز. بالإضافة إلى طقس "تويزي" أو "التويزة"  وهو يشير الى قيم التضامن. ثم طقس "يوم الساقية" وما يصاحبه من احتفالات بالإضافة إلى التبرك، وتوزيع الأدوار بين أبناء الواحة. كما ذكرت بعد ذلك مكانة الأضرحة عموما في استمرارية الطقوس بشكل كبير في استنادا على الدراسة التي جردت وجود 19 ضريحا في مجال واحة سكورة.

وبعد ذلك ركزت على دور الماء في الهندسة الاجتماعية لمجتمع الدراسة.  بعد ذلك قدمت مجموعة من الإبداعات التي ابتكرها مجتمع الواحة لتدبير ندرة الماء. ومن بينها نظام "الخطارات ". وهو نظام يضمن تخزين المياه، وتدفقها باستمرار على مدار مدة زمنية مهمة في انتظار هطول المطر مرة أخرى. وتقوم الخطارات على نظام من القيم تعمل على توزيع متوازن ودقيق للمياه في دورة الحياة الاجتماعية مضبوطة تحتكم إلى أعراف وتقاليد تتغذى على الشرع الإسلامي (نوازل، وفتاوى، وأحكام) وغيره من الروافد السوسيوثقافية للمغرب.

 بعد ذلك أشارت الأستاذة عائشة حليم إلى ارتباط الماء بأشكال التنظيم الاجتماعية تفاديا لأي صراع حوله وحتى لا يظل مصدر توترات اجتماعية قدتمس بالعيش المشترك والأمن الاجتماعي لساكنة الواحة التي تواجه تحديات الطبيعة الصحراوية من أجل بقائها، لكنها لم تغفل التفاوتات التي تطبع الخريطة الاجتماعية للواحة إذ يتكون النسيج الاجتماعي من تراتبية هرمية يوجد على رأسها الشيوخ وفي أسفله الحراطين ، أما اليهود فكان وضعهم كذمّة يضعهم في تراتبية هامشية.

وفي هذا السياق، طرحت مسألة العرف باعتباره آلية للحد من الصراع و تجنبه، إذ أن  مجتمع الدراسة خلق منظومة عرفية متناسقة أُعطيت فيها الأولوية للمكانة الاجتماعية داخل التراتبية الاجتماعية والتي يتأسس وفقها الجاه والنفوذ. كما أن كل ذلك انعكس على ثنائية "من يملك الأرض"/"من يملك الماء". وبذلك جعلتنا المنظومة السوسيوثقافية للواحة أمام استراتيجية متعددة اعتمدتها الساكنة من أجل الاستمرار وكذلك كآلية من أجل حل نزاعاتها.

ولازالت هذه الأعراف مستمرة إلى اليوم على الرغم من التحولات المجتمعية المتمثلة في الهجرة نحو المدن بالدرجة الأولى. 

  افتتحت الأستاذة الباحثة حنان حمودا تعقيبها بشكر من سهر على تنظيم اللقاء. وقالت إن هذه فرصة لمناقشة هذه الأطروحة مع المتدخلين من بين الأستاذة المشاركين، وكذلك مع الحضور. كما أن هذه الجلسة محطة لإعادة التفكير في تجربة بحثية وصفتها بالصعبة والتي لم تنتهي بعد. وأشارت بأن صعوبة هذه الدراسة تكمن في موضوعها المعقد لأنها اهتمت بدراسة البنيات الاجتماعية والذهنيات الاجتماعية على حد سواء وفي تقاطعهما لبناء الترابية الاجتماعية للواحة حول مورد حيوي (الماء). وأن هذين المكونين (البنيات والذهنيات) مكنت من ترابط الإنسان بالمجال من جهة وربط التصور والتمثل بالفعل والممارسة من جهة أخرى.

  ووقفت الباحثة على مفهوم الواحة كمفهوم-مفتاح يساعدنا على فهم تمثل الواحة كمجال للاستقرار مضبوطٍ على إيقاع الماء. وفي هذا الصدد، أوضحت أنها اعتمدت على علم التاريخ، وهو ما جعلها تقف على تفاصيل دقيقة في حضارة مائية تعاملت بذكاء مع مكونات النظام الطبيعي مما جعلها تبتكر نظاما اجتماعيا متآلفا معه لتعمير الواحة على امتداد فترات من الزمن. وأن مجتمع دراستها يتكون من خريطة أنثربولوجية ارتكزت على الماء وعلى بناء نظام اجتماعي لتوزيع الماء، بالإضافة الى روزنامة طقوسية هي عبارة عن مجموعة من الطقوس مثل "تاغنجا".

وقد وجدت ضالتها في القاموس المحلي الذي هو مزيج من مجموعة من العبارات الأمازيغية والعربية واليهودية والإسلام. وقد ساهمت في صياغته كل مكونات المجتمع المحلي لتظهر هذه الأعراف والعادات والتقاليد المرتبطة بالماء وبأحوال الطبيعة وتغيرات مناخها، والتي لازالت راسخة إلى اليوم.

ولاحظت الأستاذة الباحثة أن مقاربتها انصبت على الماء باعتباره مرآة للبنيات الاجتماعية وشكَّل وعاء ثقافيا واجتماعيا وعقديا بما له من دلالات القداسة، ومن منظم اجتماعي بامتياز. وقد ركزت الباحثة كذلك على التحولات التي طرأت على القبيلة اليوم ومن بينها الخلخلة التي بدأت تشهدها الهرمية الاجتماعية؛ إذ نجد نزوح اليهود، واعتلاء الفئات الدنيا للمجتمع لرأس الهرم؛ حيث تراجعت الفئات التي كانت لها مكانة عليا إلى قاعدة الهرم ... ذلك أن البنية الاجتماعية كانت مرتبطة بالماء وتوزيعه أي من له الحق في توزيع الماء، وتملكه؛ إذ كانت الجماعة هي من لها السلطة في ذلك. وكان دور "شيخ الماء" باعتباره الموزع والمنظم لهذا التوزيع، ثم كل من "الربّاع" (العامل الفلاحي بالربع من الأرباح) و "الخمّاس" (العامل الفلاحي بالخمس من الأرباح).

ثم انتقلت إلى البعد المنهجي في دراستها. وهنا، صرحت بأنها اعتمدت على المنهج الكيفي، ولكن بأدوات منهجية متعددة كالملاحظة بالمشاركة، والمقابلة والمجموعة البؤرية ... كما اعتمدت كذلك على المقاربة التاريخية، وحاولت ربط الجزء بالكل، والماكرو بالميكرو (العام والخاص).

واختتمت مداخلتها بكون هذا البحث لا يثير فقط إشكالية الماء بشكل ضيق بل يثير إشكالية الهامش  أي أن البحث هو أرضية لإعادة التفكر في الهامش كمقابل للمركز.

 وفي المناقشة العامة، تناول الكلمة الأستاذ عبد الفتاح الزين ليشير إلى مسألة تفكك الجماعة كإطار تنظيمي منبثق عن القبيلة وتحوله على وحدة تراتبية إدارية تتحكم فيها الدولة اليوم. وهو ما أشار إليه بول باسكون في دراساته حول تهميش الجماعة في دينامية القبيلة مع تصاعد انقساميتها وتراتبية لأسباب جديدة. كما أشار إلى حكامة الماء التقليدية داخل المدن والوظائف التي كانت منتعشة آنذاك في علاقة بالسقاية؛ حيث كان السقاؤون الذين كانوا يلقبون بالأمناء لأنهم أمناء على جودة الماء ونقائه باعتباره صالحا للشرب والوضوء والطهارة إلى جانب كونهم أمناء على اشرار البيوت لأنهم يدخلونها في غيبة صاحب البيت، كما أنهم أمناء على سلامة المدينة لأنهم كانوا يعملون كإطفائيين إذا ما شبّ حريق في مكان ما من المدينة ... غير أن مد شبكات الماء الشروب داخل المدن مع دخول الاستعمار أجهز على هذه الوظيفة التي كان يتطلب ولوجها الإدلاء لأمين الحنطة بوثيقتين عدليتين يحرر كلا منهما عدلان : الأولى عبارة عن تصريح ضامن من أغنياء المدينة وميسوريها، والثانية تصريح لشخص من ثقات المدينة مشهور بورعه. فالأولى تأمين ضد السرقة، والثانية تأمين ضد إفشاء الأسرار ... إن انهيار هذه الوظائف أربك النظام السوسيواقتصادي.

كما نبه إلى توسيع البحث في إطار مقارَبة مقارنة خاصة داخل العالم العربي من خلال الإشارة إلى نظام الأفلاج في منطقة الخليج عموما وبالأخص في سلطنة عمان والتي تشكل فيها الأفلاج أهم آلية من آليات تدبير الماء في وسط بيئي يتميز بالهشاشة. فالأفلاج كنظير للخطارات بالمغرب تتطلب دراسة مقارنة للوقوف على المشترك من خلال تنقل المعارف عبر مختلف أشكال التواصل من قبيل : الهجرات التي عرفتها القبائل أيام ما "الفتوحات الإسلامية"، أو مناسبات الحج الذي شكلت فرصا لتبادل المعارف والمنافع والأخبار ... إلى جانب الرحلات بمختلف أنواعها وما رافقها من استيطان وإقامة في هذا البلد أو ذاك ... فالأفلاج تقوم على هندسة وتقنيات ومهارات سواء من حيث شقها، وصيانتها، وتوزيع مياهها ... ولا يجب أن يقتصر البحث المقارن على الأفلاج بل أن يمتد إلى ما يحيط بها من حرف وثقافة واقتصاد ... ويمكن كذلك أن تذهب الدراسات المقارنة إلى إغناء البحث بالاهتمام بحكامة الماء في الفضاء المتوسطي ... إنه حقل مهم وغني يعد هذا العمل لبنة من لبنات التعوان من خلال توسيع دائرة الاهتمام. ثم جاءت أسئلة المشاركين الذين أشادوا بأهمية الكتاب.

وتناول البعض ثنائية الإسلام الشعبي والإسلام النصي أو الأورثذوكسي، وكيف أن هذا الأول يحاول إشراك الفرد في الطقس وتقريبه منه عكس الثاني الذي يرى في هذه الطقوس ممارسات مكروهة إن لم تكن شركية. كما أثيرت مسألة التحديث والحداثة وتأثيرهما على قدسية الماء أي كيف ساهمت وفرة الماء في المدن اليوم في تراجع قيمته الرمزية. وتساءل البعض حول استمرارية الطقوس في ظل التغيرات التي تشهدها الواحة؛ حيث أن هذا الفعل بشكل عام لا يجب اختزاله في التكيف مع الطبيعة بقدر ما يجب التركيز على الطقوس والمعتقدات خلال البحث.

وهذا ينطبق على الماء أي لا يختزل في وظائفه بل كذلك سيكون النظر مفيدا إلى الطقوس والأعراف، وأنه كلما زادت الحاجة للشيء أثقله المجتمع بالأعراف والتقاليد، ولهذا المجتمع أُثقِل الماء بالرمزية لكيلا يكون سببا في التوترات والصراعات وحتى الحروب. 

واختتم اللقاء بتعقيب الأستاذ محمد خالص والأستاذة حنان حمودا بأن هذا النقاش يمكن اعتباره معبرا لأبحاث أخرى وأن هذه الأسئلة هذي موضوعات بحث خاصة وأن الماء اليوم مرتبط بالسيادة الدولية والأمن الدولي مستحضرين الصراع الذي أشار له في البداية الأستاذ عبد الفتاح الزين حول مياه النيل بين مصر والسودان وأثيوبيا، وحتى بمنطقة الشرق الأوسط خاصة في الأراضي الفلسطينية المحتلة.

تعليق عبر الفيس بوك